الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
اختلف فيها العلماء ، وهو أن الشكر على الغنى أفضل أم الصبر على الفقر واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على أربعة أقاويل فمنهم من توقف في جوابها لتعارض الآثار وقال إن أبا حنيفة رحمه الله توقف في أطفال المشركين لتعارض الآثار فيهم وقال إذا فيقتدى به ويتوقف في هذا الفصل لتعارض الآثار [ ص: 255 ] أيضا ، ومنهم من قال هما سواء واستدلوا بقوله عليه السلام { الطاعم الشاكر كالجائع الصابر } ، ولأن الله تعالى أثنى في كتابه على عبدين وأثنى على كل واحد منهما بنعم العبد أحدهما أنعم عليه فشكر ، وهو داود قال الله { ووهبنا لداود } الآية والآخر ابتلي فصبر ، وهو أيوب عليه السلام قال الله تعالى { إنا وجدناه صابرا } الآية فعرفنا أنهما سواء ، ومنهم من قال : الشكر على الغنى أفضل لقوله عليه السلام { الحمد لله على كل نعمة } وقال عليه السلام { لو أن جميع الدنيا صارت لقمة فتناولها عبد وقال الحمد لله رب العالمين كان بما أتى به خيرا مما أوتي } يعني لما في هذه الكلمة من الثناء على الله تعالى .

وتبين بالحديث الأول أن الشكر يكون بالثناء على الله تعالى فكان أفضل من الصبر والدليل عليه قوله تعالى { اعملوا آل داود شكرا } ، وهذا يعم جميع الطاعات ، ولا شك أن ما يعم جميع الطاعات ، فهو أعلى الدرجات ، وذلك لا يوجد في الصبر على الفقر والمذهب عندنا أن الصبر على الفقر أفضل قال عليه السلام { الصبر نصف الإيمان } وقال عليه السلام { الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد } ، ولأن في الفقر معنى الابتلاء والصبر على الابتلاء يكون أفضل من الشكر على النعمة ، يعتبر هذا بسائر أنواع الابتلاء ، فإن الصبر على ألم المرض يكون أعظم في الثواب من الشكر على صحة البدن ، وكذلك الصبر على العمى أفضل من الشكر على البصر { قال عليه السلام فيما يؤثر عن ربه عز وجل من أخذت كريمته وصبر على ذلك فلا جزاء له عندي إلا الجنة أو قال الجنة والرؤية } ، وهذا الفقه ، وهو أن للمؤمن ثوابا في نفس المصيبة قال عليه السلام { يؤجر المؤمن في كل شيء حتى الشوكة تشاكه في رجله }

والدليل عليه { أن ماعزا رضي الله عنه حين أصابه حر الحجارة هرب وكان ذلك منه نوع اضطراب ثم مع ذلك قال فيه رسول الله : لقد تاب توبة لو قسمت توبته على جميع أهل الأرض لوسعتهم } فعرفنا أن نفس المصيبة للمؤمن ثواب ، وفي الصبر عليها ثواب أيضا فأما نفس الغنى فلا ثواب فيه ، وإنما الثواب في الشكر على الغنى وما ينال به الثواب من الوجهين يكون أعلى مما ينال فيه الثواب من وجه واحد ، وكما أن في الشكر على الغنى ثناء على الله تعالى ففي الصبر على المصيبة كذا لقوله تعالى { الذين إذا أصابتهم مصيبة } الآية .

وحكي أن غنيا وفقيرا تناظرا في هذه المسألة فقال الغني الشاكر : أنا أفضل ، فإن الله تعالى استقرض من الأغنياء فقال عز وجل { من ذا الذي يقرض الله } الآية وقال الفقير إن الله تعالى إنما استقرض من الأغنياء للفقراء ، وقد يستقرض من الخبيث وغير الخبيث ، ولا يستقرض إلا الأجل يوضحه أن الغني يحتاج إلى الفقير ، ولا يحتاج الفقير إلى الغني ; لأن الغني يلزمه [ ص: 256 ] أداء حق المال ، فلو اجتمع الفقراء عن آخرهم على أن لا يأخذوا شيئا من ذلك لم يجبروا على الأخذ ويحمدون شرعا على الامتناع من الأخذ فلا يتمكن الأغنياء من إسقاط الواجب عن أنفسهم والله تعالى يوصل الفقراء كفايتهم على حسب ما ضمن لهم فبهذا تبين أن الأغنياء هم الذين يحتاجون إلى الفقراء والفقراء لا يحتاجون إليهم بخلاف ما ظنه من يعتبر الظاهر ولا يتأمل في المعنى ، ويتضح بما قررنا أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر ، وفي كل خير

التالي السابق


الخدمات العلمية