يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا
المعنى في هذه الآية أن الكفار لما قالوا: لولا أنزل علينا الملائكة إنما هو يوم [ ص: 430 ] القيامة، وقد كان أول الآية يحتمل أن يريد يوم تفيض أرواحهم، لكن آخرها يقتضي أن الإشارة إلى يوم القيامة، وأمر العوامل في هذه الظروف بين إذا تأمل، فاختصرناه لذلك. ومعنى الآية: إن هؤلاء الذين تمنوا نزول الملائكة لا يعرفون ما قدر الله تعالى في ذلك فإنهم يوم يرون الملائكة هو شر لهم، ولا بشرى لهم، بل لهم الخسار ولقاء المكروه، ويومئذ لا خير ولا بشرى; لأن الظروف تكون إخبارا عن المصادر. الضمير في قوله: "ويقولون"، قال ، الحسن ، وقتادة ، والضحاك : هو "للملائكة"، المعنى: ويقول الملائكة للمجرمين: حجرا محجورا عليكم البشرى، أي: حراما محرما، ومنه قول ومجاهد جرير بن عبد المسيح :
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس
وقال أيضا، مجاهد : إن الضمير في قوله: "ويقولون" هو للكفار المجرمين، قال وابن جريج : كانت ابن جريج العرب إذا كرهوا شيئا قالوا: حجرا، قال : حجرا: عوذا، يستعيذون بالملائكة. مجاهد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ويحتمل أن يكون المعنى: ويقولون: حرام محرم علينا العفو، وقد ذكر أن هاتين اللفظتين عوذة عند أبو عبيدة العرب ، يقولها من خاف آخر في الحرم ، أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا المعنى هو مقصد بيت المتلمس الذي تقدم، أي: هذا الذي حنت إليه ممنوع.
[ ص: 431 ] وقرأ الحسن، : "حجرا" بضم الحاء، والناس على كسرها. وأبو رجاء
ثم أخبر تعالى عما يأتي قضاؤه وفعله فقال حكاية عن يوم القيامة: "وقدمنا"، أي: قصد حكمنا وإنفاذنا، ونحو هذا من الألفاظ اللائقة، وقيل: هو قدوم الملائكة أسنده إليه لأنه عن أمره، وحسنت لفظة "قدمنا" لأن القادم على شيء مكروه لم يقرره ولا أمر به مغير له ومذهب، وأما قول الراجز:
وقدم الخوارج الضلال إلى عباد ربنا فقالوا
:
إن دماءكم لنا حلال
فالقدوم على بابه.
ومعنى الآية: وقصدنا إلى أعمالهم التي هي في الحقيقة لا تزن شيئا; إذ لا نية معها، فجعلناها على ما تستحق لا تعد شيئا، وصيرناها هباء منثورا، أي: شيئا لا تحصيل له، والهباء: هي الأجرام المستدقة الشائعة في الهواء التي لا يدركها حس إلا حين تدخل الشمس على مكان ضيق يحيط به الظل كالكوة ونحوها، فيظهر حينئذ فيما قابل الشمس أشياء تغيب وتظهر، فذلك هو الهباء، ووصفه في هذه الآية بـ "منثور"، ووصفه في غيرها بـ "منبث"، فقالت فرقة: هما سواء، وقالت فرقة: المنبث أرق وأدق من المنثور; لأن المنثور يقتضي أن غيره نثره، كسنابك الخيل والرياح أو هدم حائط ونحو ذلك، والمنبث كأنه انبث من رقته، وقال غيرهما: الهباء المنثور هو ما تسفي به الرياح وتبثه، وروي عنه أنه قال: الهباء الماء المهراق، والأول أصح، والعرب تقول: هبات الغبار ونحوه إذا بثته، قال الشاعر :
فترى خلفها من الرجع والوقـ ـع منينا كأنه أهبا
[ ص: 432 ] ومعنى هذه الآية: جعلنا أعمالهم لا حكم لها ولا منزلة.
ثم أخبر عز وجل أن مستقر أهل الجنة خير من مستقر أهل النار، وجاءت "خير" ها هنا للتفضيل بين شيئين لا شركة بينهما، قال وغيره: إنه لما اشتركا في أن هذا مستقر وهذا مستقر فضل الاستقرار الواحد. الزجاج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ويظهر لي أن هذه الألفاظ التي فيها عموم ما، ويتوجه حكمها من جهات شتى، نحو قولك: أحب، وأحسن، وخير، وشر، يسوغ أن يجاء بها بين شيئين لا شركة بينهما، فتقول: السعد في الدنيا أحب إلي من الشقاء، أي: قد يوجد بوجه ما من يستحب الشقاء كالمتعبد والمغتاظ، وكذلك في غيرها، فإذا كانت "أفعل" في معنى بين أن الواحد من الشيئين لا حظ له فيه بوجه فسد الإخبار بالتفضيل به، كقولك: الماء أبرد من النار، ومن هذا أنك تقول في ياقوتة ومدرة -وتشير إلى المدرة-: هذه خير وأحسن وأحب وأفضل من هذه، ولو قلت: هذه ألمع وأشد شراقة من هذه، لكان فاسدا.
وقوله: "مقيلا"، ذهب رضي الله عنهما، ابن عباس ، والنخعي إلى أن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار ومقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فالمقيل من القائلة. وابن جريج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ويحتمل أن اللفظة إنما تضمنت تفضيل الجنة جملة وحسن هوائها، والعرب تفضل البلاد بحسن المقيل; لأن وقت القيلولة يبدو فساد هواء البلاد، فإذا كان بلد في وقت فساد الهواء حسنا جاز الفضل، ومن ذلك قول الأسود بن يعفر الإيادي :
[ ص: 433 ]
أرض تخيرها لطيب مقيلها كعب بن مامة وابن أم دؤاد
وقوله تعالى: ويوم تشقق ، يريد يوم القيامة عند انفطار السماء ونزول الملائكة ووقوع الجزاء بحقيقة الحساب. وقرأ ، ابن كثير ، ونافع : "تشقق" بشد الشين والقاف، وقرأ الباقون بتخفيف الشين، وقوله: "بالغمام"، أي: يشقق عنه، والغمام: سحاب رقيق أبيض جميل لم يره البشر بعد إلا ما جاء في تظليل بني إسرائيل . وقرأ جمهور القراء: "ونزل الملائكة تنزيلا" بضم النون وشد الزاي المكسورة ورفع "الملائكة" على مفعول لم يسم فاعله، وقرأ وابن عامر في رواية أبو عمرو عبد الوهاب : "ونزل" بتخفيف الزاي المكسورة، قال أبو الفتح : وهذا غير معروف; لأن "نزل" لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا للملائكة، ووجهه أن يكون مثل: "زكم الرجل وجن"، فإنه لا يقال إلا أزكمه الله وأجنه، وهذا باب سماع لا قياس. وقرأ : "ونزل" بفتح النون وشد الزاي، وقرأ أبو رجاء : "وأنزل الملائكة"، وكذلك قرأ الأعمش ، وقرأ ابن مسعود : "ونزلت الملائكة"، وقرأ أبي بن كعب وحده: "وننزل الملائكة" بنونين، فهي [ ص: 434 ] قراءة أهل ابن كثير مكة ، ورويت عن ، وقرأ أبي عمرو هارون عن : "ونزل الملائكة" بإسناد الفعل إليها، وقرأت فرقة: "وينزل الملائكة"، وقرأ أبي عمرو أيضا: "وتنزلت الملائكة". أبي بن كعب
قرر أن الملك الحق هو يومئذ للرحمن; إذ قد بطل في ذلك اليوم كل ملك. وعسيره على الكافرين يوجه بدخول النار عليهم فيه، وما في خلال ذلك من المخاوف. وقوله: على الكافرين ، دليل على أن ذلك اليوم سهل على المؤمنين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله تعالى ليهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف من صلاة مكتوبة صلوها في الدنيا .