الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين

تقدم في غير هذه السورة ما ذكر الناس في عظم الحية حين ألقى موسى عليه السلام عصاه، وفي هذه الآية متروك كثير يدل عليه الظاهر، وقد ذكر في مواضع أخر، وهو خوف موسى عليه السلام من ظهور سحرهم واسترهابهم للناس وتخييلهم في حبالهم وعصيهم أنها تسعى بقصد. ثم إن الحية التي خلق الله في العصا التقمت تلك الحبال والعصي عن آخرها، وأعدمها الله تعالى في جوفها، وعادت العصا إلى حالها حين أخذ [ ص: 481 ] موسى عليه السلام بالفرجة التي كانت في رأسها فأدخل يده في فمها فعادت عصا بإذن الله تبارك وتعالى.

وقرأ جمهور القراء: "تلقف" بفتح التاء خفيفة واللام وشد القاف، وقرأ حفص عن عاصم : "تلقف" بسكون اللام وتخفيف القاف، وروى البزي وابن فليح عن ابن كثير بشد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يجلب همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين.

وقوله تعالى: ما يأفكون أي: ما يكذبون معه وبسببه في قولهم: إنها معارضة موسى عليه السلام ونوع من فعله، والإفك: الكذب.

ثم إن السحرة لما رأوا العصا خالية من صنعة السحر، ورأوا فيها بعد من أمر الله تعالى ما أيقنوا أنه ليس في قوة البشر أذعنوا، ورأوا أن الغنيمة هي الإيمان والتمسك بأمر الله عز وجل، فسجدوا كلهم لله تعالى مقرين بوحدانيته وقدرته، ووصلوا إلى إيمانهم بسبب موسى وهارون عليهما السلام، وصرحوا بأن ذلك على أيديهما; لأن قولهم: برب العالمين يعني ذلك، فلم يكرروا البيان في قولهم: رب موسى وهارون إلا لما ذكرناه.

فلما رأى فرعون والملأ إيمان السحرة، وقامت الحجة بإيمان أهل علمهم ومظنة نصرتهم، وقع فرعون لعنه الله- في الورطة العظمى، فرجع إلى السحرة بهذه الحجة الأخرى، فوقفهم موبخا لهم على إيمانهم بموسى قبل إذنه، وفي هذه اللفظة مقاربة عظيمة; لأن أحد احتمالاتها أنهم لو طلبوا إذنه في ذلك أذن. ثم توعدهم بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وبالصلب في جذوع النخل، فقالوا له: "لا ضير" أي: لا يضيرنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله تعالى ورضوانه، وروي أنه أنفذ فيهم ذلك [ ص: 482 ] الوعيد وصلبهم على النيل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء ، وقولهم: أن كنا أول المؤمنين يريد: من القبط وصنيعتهم، وإلا فقد كانت بنو إسرائيل آمنت، وقرأ الناس: "أنا" بفتح الألف، وقرأ أبان بن تغلب : "إنا" بكسر الألف بمعنى أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط.

التالي السابق


الخدمات العلمية