الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون

القائل هنا هو موسى عليه السلام ، والضمير في قوله: فعلتها لقتله القبطي، وقوله: "إذا" صلة في الكلام، وكأنها بمعنى: حينئذ، وقوله: وأنا من الضالين قال ابن زيد : معناه: من الجاهلين بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه، وقال أبو عبيدة : معناه: من الناسين لذلك، ونزع لقوله تعالى: أن تضل إحداهما ، وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم: "وأنا من الجاهلين"، ويشبه أن تكون هذه القراءة على جهة التفسير.

وقوله: "حكما" يريد النبوة وحكمتها، وقرأ عيسى : "حكما" بضم الحاء والكاف، وقوله: وجعلني من المرسلين درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول.

[ ص: 476 ] ثم حاجه عليه السلام في منه عليه بالتربية وترك القتل بقوله: وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ، واختلف الناس في تأويل هذا الكلام، فقال قتادة : هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة، كأنه قال: أو يصح لك أن تعد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي: ليست نعمة; لأن الواجب كان ألا تقتلني وألا تقتلهم، وألا تستعبدني ولا تستعبدهم بالقتل ولا بالخدمة وغير ذلك. وقرأ الضحاك : "وتلك نعمة ما لك أن تمنها"، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وقال الأخفش : قيل: الواو، ألف الاستفهام محذوفة، والمعنى: أو تلك؟ وهذا لا يجوز إلا إذا عادلتها "أم" كما قال:


................ تروح من الحي أم تبتكر؟



قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وفي هذا القول تكلف، وقول موسى عليه السلام تقرير بغير ألف، وهو صحيح كما قال قتادة ، والله المعين.

[ ص: 477 ] وقال السدي ، والطبري : هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه يقول: "نعم، وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني، ولكن ذلك لا يدفع رسالتي".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ولكل وجه ناحية من الاحتجاج، فالأول ماض في طريق المخالفة لفرعون ونقض كلامه، والثاني مبد من موسى عليه السلام أنه منتصف من نفسه معترف بالحق، ومتى حصل أحد المتجادلين في هذه الرتبة، وكان حجيجه في ضدها غلب المتصف بذلك، وكان قوله أوقع في النفوس.

ولما لم يجد فرعون لعنه الله- هذا الطريق من تقريره على التنزيه وغير ذلك، رجع إلى معارضة موسى عليه السلام في قوله: وما رب العالمين فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الأشياء، قال مكي : كما يستفهم عن الأجناس، فلذلك استفهم بـ "ما"، وقد ورد له استفهام بـ "من" في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن، فأجابه موسى عليه السلام بالصفات التي يتبين السامع منها أنه لا مشاركة لفرعون فيها، وأنها ربوبية السماوات والأرض، وهذه المجادلة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد، فقال فرعون عند ذلك: "ألا تستمعون" على معنى الإغراء أو التعجب من شنعة المقالة; إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم، والفراعنة قبله كذلك، وهذه ضلالة منها في مصر وديارها إلى اليوم بقية، فزاد موسى عليه السلام في البيان بقوله: ربكم ورب آبائكم الأولين ، فقال فرعون حينئذ -على جهة الاستخفاف-: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون . وقرأ جمهور الناس: "أرسل" على بناء الفعل للفاعل، فزاد موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون ، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها، وهي ربوبية المشرق والمغرب، ولم يكن لفرعون إلا [ ص: 478 ] ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية ، وفي قراءة ابن مسعود وأصحابه: "رب المشارق والمغارب وما بينهما".

التالي السابق


الخدمات العلمية