الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين

ذكر الله تعالى في هذه الآية تسعة رجال كانوا من أوجه القوم وأقناهم وأغناهم، وكانوا أهل كفر ومعاص جمة، جملة أمرهم أنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قال عطاء بن أبي رباح : بلغني أنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا نحو الأثر المروي: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض، و "المدينة": مجتمع ثمود وقريتهم، و "الرهط": من أسماء الجمع القليل، العشرة فما دونها، و "تسعة رهط" كما تقول: تسعة رجال، وهؤلاء المذكورون كانوا أصحاب قدار بن سالف : عاقر الناقة، وقد تقدم في غير هذا الموضع ما ذكر في أسمائهم.

وقوله تعالى: "تقاسموا"، حكى الطبري أنه يجوز أن يكون فعلا ماضيا في موضع الحال، كأنه قال: متقاسمين، أو متحالفين بالله، وكأن قولهم: "لنبيتنه" حلف، ويؤيد هذا التأويل أن في قراءة عبد الله : "ولا يصلحون، تقاسموا" بسقوط "قالوا"، ويحتمل -وهو تأويل الجمهور- أن يكون "تقاسموا" فعل أمر، أشار بعضهم على بعض بأن [ ص: 546 ] يتحالفوا على هذا الفعل بصالح ، فـ "تقاسموا" هو قولهم على هذا التأويل. وهذه الألفاظ الدالة على قسم أو جواب تجاب باللام وإن لم يتقدم قسم ظاهر، فاللام في "لنبيتنه" جواب ذلك. وقرأ جمهور القراء: "لنبيتنه"، "ثم لنقولن" بالنون فيهما، وقرأ الحسن ، وحمزة ، والكسائي بالتاء فيهما، وبضم التاء واللام على الخطاب، أي: تخاطبوا بذلك، وقرأ مجاهد ، وحميد بن قيس بالياء فيهما على الخبر، فهذا ذكر الله فيه المعنى الذي أرادوه، لا بحسب لفظهم.

وروي في هذه الآية أن هؤلاء التسعة لما كان في صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة وقد أخبرهم صالح عليه السلام بمجيء العذاب، اتفق هؤلاء التسعة فتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا فيقتلوه وأهله المختصين به، قالوا: فإن كان كاذبا في وعيده أوقعنا به ما يستحق، وإن كان صادقا كنا قد أعجلناه قبلنا وشفينا نفوسنا. قال الراوي: فجاؤوا واختفوا لذلك في غار قريب من داره، فروي أنه انحدرت عليهم صخرة سدحتهم جميعا، وروي أنه طبقت عليهم الغار فهلكوا فيه حين هلك قومهم، وكل فريق لا يعلم بما جرى على الآخر، وكانوا قد بنوا على جحود الأمر من قرابة صالح الذين يمكن أن يغضبوا له، فهذا مكرهم. والمكر نحو الخديعة، وسمى الله تبارك وتعالى عقوبتهم باسم ذنبهم، وهذا مهيع، ومنه قوله تعالى: الله يستهزئ بهم ، وغير ذلك.

وقرأ الجمهور : "مهلك" بضم الميم وفتح اللام، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بفتحهما، وروي عنه فتح الميم وكسر اللام.

و "العاقبة" حال تقتضيها البدأة وتؤدي إليها، ويعني بالأهل كل من آمن معه، قاله الحسن . وقرأ جمهور القراء: "إنا دمرناهم" بكسر الألف، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : "أنا دمرناهم"، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق ، فـ "كان" -على قراءة الكسر في الألف- تامة، وإن قدرت ناقصة فخبرها محذوف، أو يكون الخبر "كيف" مقدما; لأن صدر الكلام لها، ولا يعمل -على هذا- "انظر" في "كيف"، لكن [ ص: 547 ] يعمل في موضع الجملة كلها، وهي على قراءة فتح الألف ناقصة، وخبرها "أنا"، ويجوز أن يكون الخبر "كيف"، ويكون "أنا" بدلا من "العاقبة"، ويجوز أن تكون "كان" تامة "وأنا" بدلا من "العاقبة"، ووقع تقدير السؤال بـ "كيف" عن جملة قوله: كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم ، وقرأ أبي بن كعب : "أن دمرناهم"، فهذه تؤيد قراءة الفتح في "أنا".

التالي السابق


الخدمات العلمية