قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل اختلف في ، فروي عن المراد بالمثل : ( أن المثل نظيره ؛ في الأروى بقرة وفي الظبية شاة وفي النعامة بعير ) وهو قول ابن عباس سعيد بن جبير في آخرين من التابعين ، وهو قول وقتادة مالك ومحمد بن الحسن وذلك فيما له نظير من النعم ، فأما ما لا نظير له منه كالعصفور ونحوه ففيه القيمة . والشافعي
وروى الحجاج عن عطاء ومجاهد في المثل أنه القيمة دراهم ، وروي عن وإبراهيم رواية أخرى أنه الهدي . وقال مجاهد أبو حنيفة : ( المثل هو القيمة ، ويشتري بالقيمة هديا إن شاء ، وإن شاء اشترى طعاما وأعطى كل مسكين نصف صاع ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما ) . قال وأبو يوسف : [ ص: 135 ] المثل اسم يقع على القيمة وعلى النظير من جنسه وعلى نظيره من النعم ، ووجدنا المثل الذي يجب في الأصول على أحد وجهين : أبو بكر
إما من جنسه كمن استهلك لرجل حنطة فيلزمه مثلها ، وإما من قيمته كمن استهلك ثوبا أو عبدا ؛ والمثل من غير جنسه ولا قيمته خارج عن الأصول . واتفقوا أن المثل من جنسه غير واجب ، فوجب أن يكون المثل المراد بالآية هو القيمة . وأيضا لما كان ذلك متشابها محتملا للمعاني وجب حمله على ما اتفقوا على معناه من المثل المذكور في القرآن ، وهو قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فلما كان المثل في هذا الموضع فيما لا مثل له من جنسه هو القيمة ، وجب أن يكون المثل المذكور للصيد محمولا عليه من وجهين : أحدهما : أن المثل في آية الاعتداء محكم متفق على معناه بين الفقهاء وهذا متشابه يجب رده إلى غيره فوجب أن يكون مردودا على ما اتفق على معناه منه .
والوجه الثاني : أنه قد ثبت أن المثل اسم للقيمة في الشرع ولم يثبت أنه اسم للنظير من النعم ، فوجب حمله على ما قد ثبت اسما له ولم يجز حمله على ما لم يثبت أنه اسم له . وأيضا قد اتفقوا أن القيمة مرادة بهذا المثل فيما لا نظير له من النعم ، فوجب أن تكون هي المرادة من وجهين :
أحدهما : أنه قد ثبت أن القيمة مرادة فهو بمنزلته لو نص عليها فلا ينتظم النظير من النعم . والثاني : أنه لما ثبت أن القيمة مرادة انتفى النظير من النعم لاستحالة إرادتهما جميعا في لفظ واحد ؛ لأنهم متفقون على أن المراد أحدهما من قيمة أو نظير من النعم ، ومتى ثبت أن القيمة مرادة انتفى غيرها .
ومن جهة أخرى أن قوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم لما كان عاما فيما له نظير وفيما لا نظير له ، ثم عطف عليه قوله : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل وجب أن يكون ذلك المثل عاما في جميع المذكور والقيمة بذلك أولى ؛ لأنه إذا حمل على القيمة كان المثل عاما في جميع المذكور ، وإذا حمل على النظير كان خاصا في بعضه دون بعض ؛ وحكم اللفظ استعماله على عمومه ما أمكن ذلك ، فلذلك وجب أن يكون اعتبار القيمة أولى ، ومن اعتبر النظير جعل اللفظ خاصا في بعض المذكور دون البعض .
فإن قيل : إذا كان اسم المثل يقع على القيمة تارة وعلى النظير أخرى ، فمن استعملهما فيما له نظير على النظير وفيما لا نظير له من النعم على القيمة ، فلم يخل من استعمال لفظ المثل على عمومه إما في القيمة أو المثل . قيل له : ليس كذلك ، بل هو مستعمل في القيمة على الخصوص وفي النظير على [ ص: 136 ] الخصوص أيضا واستعماله على العموم في جميع ما انتظمه الاسم باعتبار القيمة أولى من استعماله على الخصوص في كل واحد من المعنيين .
فإن قال قائل : المثل اسم للنظير وليس باسم للقيمة ، وإنما أوجبت القيمة فيما لا نظير له من الصيد بالإجماع لا بالآية . قيل له : هذا غلط من وجوه :
أحدها أن الله تعالى قد سمى القيمة مثلا في قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتفق فقهاء الأمصار فيمن استهلك عبدا أن عليه قيمته ، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم على معتق عبد بينه وبين غيره بنصف قيمته إذا كان موسرا ، فبان بذلك غلط هذا القائل في نفيه اسم المثل عن القيمة . ووجه آخر : وهو أن قولك ( إن الآية لم تقتض إيجاب الجزاء فيما لا نظير له ) تخصيص لها بغير دليل ، مع دخول ذلك في عموم قوله : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم وقوله : ومن قتله منكم متعمدا والهاء في : قتله كناية عن جميع المذكور من الصيد ، فإذا أخرجت منه بعضه فقد خصصته بغير دليل ، وذلك غير سائغ . ويدل على أن المثل القيمة دون النظير أن جماعة من الصحابة قد روي عنهم : ( في الحمامة شاة ) ولا تشابه بين الحمامة والشاة في المنظر ، فعلمنا أنهم أوجبوها على وجه القيمة .
فإن قيل : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل في الضبع كبشا . قيل له : لأن تلك كانت قيمته ، ولا دلالة فيه على أنه أوجبه من حيث كان نظيرا له .
فإن قال قائل : إنما كان يسوغ هذا التأويل وحمل الآية على القيمة لو لم يكن في الآية بيان المراد بالمثل ، وقد فسر في نسق الآية معنى المثل في قوله : فجزاء مثل ما قتل من النعم فأخبر أن المثل من النعم ولا مساغ للتأويل مع النص . قيل له : إنما كان يكون على ما ادعيت لو اقتصر على ذلك ولم يصله بما أسقط دعواك ، وهو قوله : من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما فلما وصله بما ذكر وأدخل عليه حرف التخيير ثبت بذلك أن ذكر النعم ليس على وجه التفسير للمثل ، ألا ترى أنه قد ذكر الطعام والصيام جميعا وليسا مثلا وأدخل ( أو ) بينهما وبين النعم ؟ ولا فرق ؛ إذ كان ذلك ترتيب الآية بين أن يقول فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما أو من النعم هديا ؛ لأن تقديم ذكر النعم في التلاوة لا يوجب تقديمه في المعنى ، بل الجميع كأنه مذكور معا .
ألا ترى أن قوله تعالى : فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة لم يقتض كون الطعام مقدما على الكسوة ولا الكسوة مقدمة على العتق في المعنى ، بل الكل كأنه [ ص: 137 ] مذكور بلفظ واحد معا ؟ فكذلك قوله : فجزاء مثل ما قتل من النعم موصولا بقوله : يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين لم يكن ذكر النعم تفسيرا للمثل . وأيضا فإن قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره ، وقوله : من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل ، فلم يجز أن يجعل المثل مضمنا بالنعم مع استغناء الكلام عنه لأن كل كلام فله حكم غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه . وأيضا قوله : من النعم معلوم أن فيه ضمير إرادة المحرم ، فمعناه : ( من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا ) إن أراد الهدي ، والطعام إن أراد الطعام ، فليس هو إذا تفسيرا للمثل ، كما أن الطعام والصيام ليسا تفسيرا للمثل المذكور .
فإن قيل : روي عن جماعة من الصحابة أنهم حكموا في النعامة ببدنة ، ومعلوم أن القيم تختلف ، وقد أطلقوا القول في ذلك من غير اعتبار الصيد في زيادة القيمة ونقصانها . قيل له : فما تقول أنت ، هل توجب في ارتفاع قيمته وانخفاضها فتوجب في أدنى النعام بدنة رفيعة وتوجب في أرفع النعام بدنة وضيعة ؟ في كل نعامة بدنة من غير اعتبار الصيد
فإن قيل : لا ، وإنما أوجب بدنة على قدر النعامة ، فإن كانت رفيعة فبدنة رفيعة وإن كانت وضيعة فبدنة على قدرها ؛ قيل له فقد خالفت الصحابة لأنهم لم يسألوا عن حال الصيد ولم يفرقوا بين الرفيعة منها والدنية فاعتبرت خلاف ما اعتبروا .
فإن قيل : هذا محمول على أنهم حكموا بالبدنة على حسب حال النعامة وإن لم يذكروا ذلك ولم ينقله الراوي . قيل له : فكذلك يقول لك القائلون بالقيمة إنهم حكموا بالبدنة لأن ذلك كان قيمتها في ذلك الوقت ، وإن لم ينقل إلينا أنهم حكموا بالبدنة على أن قيمتها كانت قيمة النعامة . ويقال لهم : هل يدل حكمهم في النعامة ببدنة عليه أنه لا يجوز غيرها من الطعام والصيام ؟ فإن قالوا : لا ، قيل لهم : فكذلك حكمهم فيها بالبدنة غير دال على نفي جواز القيمة .
فصل وقرئ قوله تعالى : فجزاء مثل برفع المثل ، وقرئ بخفضه وإضافة الجزاء إليه . والجزاء قد يكون اسما للواجب بالفعل ويكون مصدرا فيكون فعلا للمجازي ، فمن قرأه بالتنوين جعل المثل صفة للجزاء المستحق بالفعل وهو القيمة أو النظير من النعم على اختلافهم فيه ؛ ومن أضافه جعله مصدرا وأضافه إلى المثل ، فكان ما يخرجه من [ ص: 138 ] الواجب مضافا إلى المثل المذكور . ويحتمل أن يكون الجزاء الذي هو الواجب مضافا إلى المثل ، والمثل يكون مثلا للصيد ، فيفيد أن الصيد ميتة محرم لا قيمة له ، وأن الواجب اعتبار مثل الصيد حيا في إيجاب القيمة ، فالإضافة صحيحة المعنى في الحالين سواء كان الجزاء اسما أو مصدرا ؛ والنعم من الإبل والبقر والغنم .
وقوله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم يحتمل القولين جميعا من القيمة أو النظير من النعم ؛ لأن القيم تختلف على حسب اختلاف أحوال الصيد ، فيحتاج في كل حين وفي كل صيد إلى استئناف حكم الحكمين في تقويمه . ومن قال بالنظر فرجع إلى قول الحكمين ، لاختلاف الصيد في نفسه من ارتفاع أو انخفاض حتى يوجبا في الرفيع منه الرفيع من النظير وفي الوسط الوسط وفي الدني الدني ، وذلك يحتاج فيه إلى اجتهاد الحكمين . وروي عن عن ابن أبي مليكة ابن عباس ، قالا في وابن عمر : ( فيه ثلثا مد وثلثا مد خير من قطاة في بطن مسكين ) . محرم قتل قطاة
وروى عن معمر صدقة بن يسار قال : سألت القاسم وسالما عن حجلة ، فقال أحدهما لصاحبه : أحجلة في بطن رجل خير أو ثلثا مد ؟ فقال : بل ثلثا مد ، فقال : هي خير أو نصف مد ؟ قال : بل نصف مد ، قال : هي خير أو ثلث مد ؟ قال : قلت : أتجزي عني شاة ؟ قالا : أوتفعل ذلك ؟ قلت : نعم ، قالا : فاذهب . ذبحها وهو محرم ناسيا
وروي أن وضع رداءه على عود في عمر دار الندوة ، فأطار حماما فقتله حرام ، فقال لعثمان ونافع بن عبد الحارث : احكما علي فحكما بعناق بنية عفراء ، فأمر بها . عمر
وروى عن عبد الملك بن عمير قبيصة بن جابر : " أن محرما قتل ظبيا ، فسأل رجلا إلى جنبه ، ثم أمره بذبح شاة وأن يتصدق بلحمها ؛ قال عمر قبيصة : فلما قمنا من عنده قلت له : أيها المستفتي إن فتيا ابن الخطاب لم تغن عنك من الله شيئا ، فانحر ناقتك وعظم شعائر الله فوالله ما علم ابن الخطاب ما يقول حتى سأل الرجل الذي إلى جنبه ، فقمت إلى ابن الخطاب وإذا عمر قد أقبل ومعه الدرة على صاحبي صفعا وهو يقول : قاتلك الله أتقتل الحرام وتعدي الفتيا وتقول ما علم عمر حتى سأل من إلى جنبه أما تقرأ : عمر يحكم به ذوا عدل منكم فهذا يدل على أن حكم الحكمين في ذلك من طريق الاجتهاد ، ألا ترى أن عمر وابن عباس وابن عمر والقاسم وسالما كل واحد منهم سأل صاحبه عن اجتهاده في المقدار الواجب ، فلما اتفق رأيهما على شيء حكما به ؟ وهذا يدل على جواز لإباحة الله تعالى الاجتهاد في تقويم الصيد وما يجب فيه . ويدل أيضا على أن الاجتهاد في أحكام الحوادث [ ص: 139 ] موكول إلى اجتهاد عدلين يحكمان به على المستهلك ، كما أوجب الرجوع إلى قول الحكمين في تقويم الصيد . والحكمان عند تقويم المستهلكات يحكمان عليه بالقيمة ثم يختار المحرم ما شاء من هدي أو طعام أو صيام . وقال أبي حنيفة محمد : ( الحكمان يحكمان بما يريان من هدي أو طعام أو صيام ، فإن حكما بالهدي كان عليه أن يهدي ) .