الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلف في المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " إذا وجد الماء في الصلاة بطلت صلاته وتوضأ واستقبل " .

وقال مالك والشافعي : " يمضي فيها وتجزيه " . وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : " أنه إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لم يلزمه الوضوء وصلى بتيممه " ، وهو قول شاذ مخالف للسنة والإجماع ، والدليل على صحة قولنا قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فأوجب غسل هذه الأعضاء عند وجود الماء ، ثم نقله إلى التراب عند عدمه ، فمتى وجد الماء فهو مخاطب باستعماله بظاهر الآية .

وعلى أن حقيقة اللفظ تقتضي وجوب الغسل بعد القيام إلى الصلاة ، فغير جائز أن يكون دخوله فيها مانعا من لزوم استعماله . وأيضا لا يختلفون أن حكم الآية في فرض الغسل عند وجود الماء قائم عليه بعد دخوله في الصلاة ؛ لأنه لو أفسد صلاته قبل إتمامها لزمه استعمال الماء بالآية ، فثبت بذلك أن دخوله في الصلاة لم يسقط عنه فرض الغسل ، والخطاب بحكم الآية ، فوجب عليه بحكم الآية استعماله لبقاء فرض استعماله عليه . وأيضا لا يخلو قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة من أن يكون المراد به حال وجود الصلاة بعد فعل جزء منها وإرادة القيام إليها محدثا وجعل ذلك شرطا للزوم استعماله فقد وجد ، فعليه استعماله ، ولا يسقط عنه ذلك بالتيمم والدخول فيها مع وجود سبب تكليفه ؛ إذ كان المسقط لفرضه هو عدم الماء فمتى وجد فقد عاد شرط لزومه فلزمته الطهارة به . ويدل عليه أيضا قوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فإذا كان جنبا ودخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء لزمه بقوله : لا تقربوا الصلاة إلى قوله : حتى تغتسلوا

فإن قيل : في نسق الخطاب : وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله : [ ص: 24 ] فلم تجدوا ماء فتيمموا

قيل له : هما مستعملان جميعا كل واحد على شريطته ، فالتيمم عند عدم الماء والغسل عند وجوده ؛ وغير جائز إسقاط الغسل عند وجوده ؛ إذ كان الظاهر يوجبه ، ولم تفرق الآية بين حاله بعد الدخول في الصلاة أو قبله ؛ ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فجعله طهورا بشريطة عدم الماء ، فإذا وجد الماء خرج من أن يكون طهارة ؛ ولم يفرق بين أن يكون في الصلاة أو في غيرها ، فإذا بطلت طهارته برؤيته الماء لم يجز له أن يمضي فيها . وأيضا فقال صلى الله عليه وسلم : الماء طهور المسلم وقال صلى الله عليه وسلم : إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك وفي بعض الألفاظ : وأمسسه بشرتك ودلالته على ما وصفنا من وجهين :

أحدهما : ما ذكرنا من قوله : التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فأخبر بالحال التي يكون التراب فيها طهورا ، وهو أن لا يجد الماء ، ولم يفرق بين حاله قبل الدخول في الصلاة وبعده . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خص كونه طهورا بهذه الحال دون غيرها ، فمتى صلى به والماء موجود فهو مصل بغير طهور . والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك ولم يفرق بينه قبل الدخول وبعده ، فهو على الحالين يلزمه استعماله متى وجده بظاهر قوله . ويدل عليه اتفاق الجميع على أن وجود الماء بعد التيمم قبل الدخول يمنع الابتداء ، فوجب أن يمنع البناء ؛ كما أن الحدث لما منع ابتداء الصلاة منع البناء عليها ، إذ كان من شرط صحتهما جميعا الطهارة .

وأيضا فإن كونه في الصلاة لا يمنع لزوم الطهارة ؛ لأنه لو أحدث فيها لزمته الطهارة ، وكذلك لا يمنع لزوم سائر الفروض التي هي من شروط الصلاة مثل وجود الثوب للعريان ، وعتق الأمة في لزومها تغطية الرأس ، وخروج وقت المسح ؛ فوجب أن لا يمنع كونه في الصلاة من لزوم الطهارة بالماء عند وجوده . وأيضا لما لم يجز التحريمة بالتيمم مع وجود الماء ؛ لأنه يكون فاعلا لجزء من الصلاة بالتيمم مع وجود الماء وكان هذا المعنى موجودا بعد الدخول ، وجب أن يمنع المضي فيها .

فإن قيل : لو أحدث جاز البناء عندك إذا توضأ ، ولا تجوز التحريمة بعد الحدث . قيل له : لا فرق بينهما لأنه لو فعل جزءا من الصلاة بعد الحدث قبل الطهارة بطلت صلاته ، وإنما نجيز له البناء إذا توضأ ، وأنت تجيزه قبل الطهارة بالماء .

فإن قيل : إنما اختلف حال الصلاة وقبلها في التيمم لسقوط فرض الطلب عنه بدخوله في الصلاة ؛ لأن كونه فيها ينافي فرض الطلب ، وأما قبل الدخول فيها ففرض الطلب قائم عليه ، فلذلك لزمته الطهارة إذا وجده قبل الدخول .

قيل له : أما قولك في لزوم فرض الطلب [ ص: 25 ] قبل الدخول فيها ، ففاسد على ما قدمناه فيما سلف . ومع ذلك فلو سلمناه لك لانتقض على أصلك ، وذلك أن بقاء فرض الطلب ينافي صحة الدخول في الصلاة عندك ، فلا يخلو إذا طلب ولم يجد فتيمم أن يكون فرض الطلب قائما عليه أو ساقطا عنه ، فإذا كان فرض الطلب قائما عليه فواجب أن لا يصح دخوله ؛ إذ كان بقاء فرض الطلب ينافي صحة الصلاة ويمنع صحة التيمم أيضا على أصلك . وإن كان فرض الطلب ساقطا عنه ، فالواجب على قضيتك أن لا يلزمه استعمال الماء إذا وجده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة ، كما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن فلما ألزمته استعمال الماء عند وجوده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة مع سقوط فرض الطلب ، ثبت أن سقوط فرض الطلب ليس بعلة لجواز ترك استعمال الماء عند وجوده . وأيضا قد اتفقوا جميعا أن الصغيرة لو اعتدت شهرا ثم حاضت انتقلت عدتها إلى الحيض ؛ لأن الشهور بدل من الحيض ؛ وإنما تكون عدة عند عدمه ، كما أن التيمم طهور عند عدم الماء ؛ فلما اتفقوا على استواء حالهما قبل وجوب العدة وبعده في كون الحيض عدة عند وجوده ، وجب أن يستوي حكم وجود الماء بعد الدخول في الصلاة وقبله . وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء لم يجز أن يبقى حكمه مع وجود المبدل عنه ، كسائر الأبدال لا يثبت حكمها مع وجود الأصل .

فإن قيل : فلو أن متمتعا وجد الهدي بعد صوم الثلاثة الأيام وبعد الإحلال ، جاز له أن يصوم السبعة مع وجود الأصل . قيل له : الثلاثة بدل من الهدي لأن بها يقع الإحلال ، وليست السبعة بدلا من الهدي ؛ لأن الإحلال يكون قبل السبعة .

فإن قيل : ليست حال الصلاة حالا للطهارة فلا يلزمه استعمال الماء . قيل له : فينبغي أن لا يلزمه غسل الرجلين بخروج وقت المسح وهو في الصلاة ، وأن لا يلزم المستحاضة الوضوء بانقطاع الدم في الصلاة ، وأن لا تلزمها الطهارة لو أحدث فيها لهذه العلة .

فإن احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ؛ قيل له : لم يقل ذلك ابتداء بل بكلام متصل به ، وهو أنه قال : إذا وجد أحدكم حركة في دبره فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ، وقال : إن الشيطان يخيل إلى أحدكم أنه قد أحدث ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ، وقال في بعض الألفاظ : لا وضوء إلا من صوت أو ريح . فأما ابتداء قول منه : فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا فإن ذلك لم ينقل ولم يروه أحد . وإذا كان كذلك فإنما هو في الشاك في الحدث ، فلم يصح أن نجعله في غيره ممن [ ص: 26 ] لم يشك ووجد الماء . وعلى أن قوله : لا وضوء إلا من صوت أو ريح يقتضي ظاهره إيجاب الوضوء بوجود الماء ؛ لأن الحدث الذي عنه وجبت الطهارة باق لم يرتفع بالتيمم .

فإن قيل : ما تقول لو تيمم ودخل في صلاة العيد أو صلاة الجنازة ثم وجد الماء ؟ قيل له : ينتقض تيممه ولا يجوز له المضي عليها ، وتبطل صلاته إذا أمكنه استعمال الماء والدخول في الصلاة ، لا فرق بينهما وبين الصلاة المكتوبة . وجواب آخر عما أورده من الخبر أنه مجمل لا يصح الإيجاب به ؛ لأنه مفهوم أنه لم يرد به كل صوت أو ريح يوجد في دار الدنيا ، وإنما أراد صوتا أو ريحا على صفة لا يدري ما هو بنفس اللفظ ، فسبيله أن يكون موقوفا على دلالة ؛ فإن ادعوا فيه العموم كان دلالة لنا ؛ لأنه إذا سمع صوت الماء وجب عليه بظاهره ؛ إذ لم يفرق فيه بين الأصوات .

التالي السابق


الخدمات العلمية