الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله [ ص: 171 ] عليه وإنه لفسق فيه نهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه . وقد اختلف في ذلك ، فقال أصحابنا ومالك { والحسن بن صالح : إن ترك المسلم التسمية عمدا لم يؤكل وإن تركها ناسيا أكل } .

وقال الشافعي : { يؤكل في الوجهين } ، وذكر مثله عن الأوزاعي وقد اختلف أيضا في تارك التسمية ناسيا ، فروي عن علي وابن عباس ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وابن شهاب وطاوس قالوا : لا بأس بأكل ما ذبح ونسي التسمية عليه . وقال علي : { إنما هي على الملة } .

وقال ابن عباس : المسلم ذكر الله في قلبه وقال : كما لا ينفع الاسم في الشرك لا يضر النسيان في الملة . وقال عطاء : المسلم تسمية اسم الله تعالى ؛ المسلم هو اسم من أسماء الله تعالى ، والمؤمن هو اسم من أسمائه ، والمؤمن تسمية للذابح .

وروى أبو خالد الأصم عن ابن عجلان عن نافع : { أن غلاما لابن عمر قال له : يا عبد الله قل بسم الله قال : قد قلت ، قال : قل بسم الله قال : قد قلت ، قال : قل بسم الله قال : قد قلت ، قال : فذبح فلم يأكل منه } وقال ابن سيرين : إذا ترك التسمية ناسيا لم يؤكل .

وروى يونس بن عبيد عن مولى لقريش عن أبيه : { أنه أتى على غلام لابن عمر قائما عند قصاب ذبح شاة ونسي أن يذكر اسم الله عليها ، فأمره ابن عمر أن يقوم عنده فإذا جاء إنسان يشتري قال : ابن عمر يقول إن هذه لم يذكها فلا تشتر } .

وروى شعبة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يذبح فينسى أن يسمي قال : { أحب إلي أن لا يأكل } . وظاهر الآية موجب لتحريم ما ترك اسم الله عليه ناسيا كان ذلك أو عامدا ، إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على أن النسيان غير مراد به ؛ فأما من أباح أكله مع ترك التسمية عمدا فقوله مخالف للآية غير مستعمل لحكمها بحال ، هذا مع مخالفته للآثار المروية في إيجاب التسمية على الصيد والذبيحة فإن قيل : إن المراد بالنهي الذبائح التي ذبحها المشركون ، ويدل عليه ما روى شريك عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال المشركون : أما ما قتل ربكم فمات فلا تأكلونه وأما ما قتلتم أنتم وذبحتم فتأكلونه فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه قال : { الميتة } . ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة : ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم فإذا كانت الآية في الميتة وفي ذبائح المشركين فهي مقصورة الحكم ولم يدخل فيها ذبائح المسلمين .

قيل له : نزول الآية على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه بل الحكم للعموم إذا كان أعم من السبب ، فلو كان المراد ذبائح المشركين لذكرها ولم يقتصر على ذكر ترك التسمية ، وقد علمنا أن المشركين وإن سموا [ ص: 172 ] على ذبائحهم لم تؤكل مثل ذلك على أنه لم يرد ذبائح المشركين ؛ إذ كانت ذبائحهم غير مأكولة سموا الله عليها أو لم يسموا ، وقد نص الله تعالى على تحريم ذبائح المشركين في غير هذه الآية وهو قوله تعالى : وما ذبح على النصب وأيضا فلو أراد ذبائح المشركين أو الميتة لكانت دلالة الآية قائمة على فساد التذكية بترك التسمية ؛ إذ جعل ترك التسمية علما لكونه ميتة ، فدل ذلك على أن كل ما تركت التسمية عليه فهو ميتة . وعلى أنه قد روي عن ابن عباس ما يدل على أن المراد التسمية دون ذبيحة الكافر . وهو ما رواه إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم قال : كانوا يقولون : ما ذكر اسم الله عليه فلا تأكلوه وما لم يذكر اسم الله عليه فكلوه ، فقال الله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه

، فأخبر ابن عباس في هذا الحديث أن المجادلة منهم كانت في ترك التسمية وأن الآية نزلت في إيجابها لا من طريق ذبائح المشركين ولا الميتة ويدل على أن ترك التسمية عامدا يفسد الزكاة .

قوله تعالى : يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين إلى قوله : واذكروا اسم الله عليه ومعلوم أن ذلك أمر يقتضي الإيجاب وأنه غير واجب على الآكل ، فدل على أنه أراد به حال الاصطياد ، والسائلون قد كانوا مسلمين فلم يبح لهم الأكل إلا بشريطة التسمية ؛ ويدل عليه قوله تعالى : فاذكروا اسم الله عليها صواف يعني في حال النحر ؛ لأن الله تعالى قال : فإذا وجبت جنوبها والفاء للتعقيب .

ويدل عليه من جهة السنة حديث عدي بن حاتم حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب ، فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل إذا أمسك عليك ، وإن وجدت معه كلبا آخر وقد قتله فلا تأكله فإنما ذكرت اسم الله على كلبك ولم تذكره على غيره وقد كان عدي بن حاتم مسلما ، فأمره بالتسمية على إرسال الكلب ومنعه الأكل عند عدم التسمية بقوله : { فلا تأكله فإنما ذكرت اسم الله على كلبك } .

وقد اقتضت الآية النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه والنهي عن ترك التسمية أيضا . ويدل على تأكيد النهي عن ذلك قوله تعالى : وإنه لفسق وهو راجع إلى الأمرين من ترك التسمية ومن الأكل ويدل أيضا على أن المراد حال تركها عامدا ؛ إذ كان الناسي لا يجوز أن تلحقه سمة الفسق ويدل عليه ما روى عبد العزيز الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الناس قالوا : يا رسول الله [ ص: 173 ] إن الأعراب يأتون باللحم فبتنا عندهم وهم حديثو عهد بكفر لا ندري ذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه الله وكلوا ، فلو لم تكن التسمية من شرط الذكاة لقال : وما عليكم من ترك التسمية ، ولكنه قال : { كلوا } ؛ لأن الأصل أن أمور المسلمين محمولة على الجواز والصحة فلا تحمل على الفساد وما لا يجوز إلا بدلالة .

فإن قيل : لو كان المراد ترك المسلم التسمية لوجب أن يكون من استباح أكله فاسقا لقوله تعالى : وإنه لفسق فلما اتفق الجميع على أن المسلم التارك للتسمية عامدا غير مستحق بسمة الفسق دل على أن المراد الميتة أو ذبائح المشركين قيل له : ظاهر قوله : وإنه لفسق عائد على الجميع من المسلمين وغيرهم وقيام الدلالة على خصوص بعضهم غير مانع بقاء حكم الآية في إيجاب التسمية على المسلم في الذبيحة . وأيضا فإنا نقول : من ترك التسمية عامدا مع اعتقاده لوجوبها هو فاسق .

وكذلك من أكل ما هذا سبيله مع الاعتقاد ؛ لأن ذلك من شرطها فقد لحقته سمة الفسق ، وأما من اعتقد أن ذلك في الميتة أو ذبائح أهل الشرك دون المسلمين فإنه لا يكون فاسقا لزواله عند حكم الآية بالتأويل .

فإن قال قائل : لما كانت التسمية ذكرا ليس بواجب في استدامته ولا في انتهائه وجب أن لا يكون واجبا في ابتدائه ، ولو كان واجبا لاستوى فيه العامد والناسي . قيل له : أما القياس الذي ذكره فهو دعوى محض لم يرده على أصل فلا يستحق الجواب ، على أنه منتقض بالإيمان والشهادتين وكذلك في التلبية والاستئذان وما شاكل هذا ؛ لأن هذه إذا كانت ليست بواجبة في استدامتها وانتهائها ومع ذلك فهي واجبة في الابتداء .

وإنما قلنا إن ترك التسمية ناسيا لا يمنع صحة الذكاة ، من قبل أن قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه خطاب للعامد دون الناسي ؛ ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة : وإنه لفسق وليس ذلك صفة للناسي ؛ ولأن الناسي في حال نسيانه غير مكلف للتسمية ، وروى الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، وإذا لم يكن مكلفا للتسمية فقد أوقع الذكاة على الوجه المأمور به فلا يفسده ترك التسمية ، وغير جائز إلزامه ذكاة أخرى لفوات ذلك منه ، وليس ذلك مثل نسيان تكبيرة الصلاة أو نسيان الطهارة ونحوها ؛ لأن الذي يلزمه بعد الذكر هو فرض آخر ، ولا يجوز أن يلزمه فرض آخر في الذكاة لفوات محلها .

فإن قيل : لو كانت التسمية من شرائط الذكاة [ ص: 174 ] لما أسقطها النسيان ، كترك قطع الأوداج . وهذا السؤال للفريقين : من أسقط التسمية رأسا ، ومن أوجبها في حال النسيان ؛ فأما من أسقطها فإنه يستدل علينا باتفاقنا على سقوطها في حال النسيان ، وشرائط الذكاة لا يسقطها النسيان كترك قطع الأوداج ، فدل على أن التسمية ليست بشرط فيها ، ومن أوجبها في حال النسيان يشبهها بترك قطع الحلقوم والأوداج ناسيا أو عامدا أنه يمنع صحة الذكاة . فأما من أسقط فرض التسمية رأسا فإن هذا السؤال لا يصح له ؛ لأنه يزعم أن ترك الكلام من فروض الصلاة وكذلك فعل الطهارة وهما جميعا من شروطها ، ثم فرق بين تارك الطهارة ناسيا وبين المتكلم في الصلاة ناسيا ؛ وكذلك النية شرط في صحة الصوم وترك الأكل أيضا شرط في صحته ، ولو ترك النية ناسيا لم يصح صومه ولو أكل ناسيا لم يفسد صومه ، فهذا سؤال ينتقض على أصل هذا السائل . وأما من أوجبها في حال النسيان واستدل بقطع الأوداج فإنه لا يصح له ذلك أيضا ؛ لأن قطع الأوداج هو نفس الذبح الذي ينافي موته حتف أنفه وينفصل به من الميتة ، والتسمية مشروطة لذلك لا على أنها نفس الذبح بل هي مأمور بها عنده في حال الذكر دون حال النسيان ، فلم يخرجه عدم التسمية على وجه السهو من وجود الذبح ، فلذلك اختلفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية