الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : وفي الرقاب فإن أهل العلم مختلفون فيه فقال إبراهيم النخعي والشعبي وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين : لا يجزي أن تعتق من الزكاة رقبة ، وهو قول أصحابنا والشافعي . وقال ابن عباس : أعتق من زكاتك . وكان سعيد بن جبير لا يعتق من الزكاة مخافة جر الولاء .

وقال في الرقاب : { إنها رقاب يبتاعون من الزكاة ، ويعتقون فيكون ولاؤهم لجماعة المسلمين دون المعتقين } . قال مالك والأوزاعي : لا يعطى المكاتب من الزكاة شيئا ، ولا عبدا موسرا كان مولاه أو معسرا ، ولا يعطون من الكفارات أيضا ، قال مالك : { لا يعتق من الزكاة إلا رقبة مؤمنة } . قال أبو بكر : لا نعلم خلافا بين السلف في جواز إعطاء المكاتب من الزكاة ، فثبت أن إعطاءه مراد بالآية ، والدفع إليه صدقة صحيحة ، وقال الله تعالى : إنما الصدقات للفقراء إلى قوله : وفي الرقاب وعتق الرقبة لا يسمى صدقة ، وما أعطي في ثمن الرقبة فليس بصدقة ؛ لأن بائعها أخذه ثمنا لعبده فلم تحصل بعتق الرقبة صدقة ، والله تعالى إنما جعل الصدقات في الرقاب فما ليس بصدقة فهو غير مجزئ .

وأيضا فإن الصدقة تقتضي تمليكا والعبد لم يملك شيئا بالعتق ، وإنما سقط عن رقبته ، وهو ملك للمولى ، ولم يحصل ذلك الرق للعبد ؛ لأنه لو حصل له لوجب أن يقوم فيه مقام المولى فيتصرف في رقبته كما يتصرف المولى ، فثبت أن الذي حصل للعبد إنما هو سقوط ملك المولى ، وأنه لم يملك بذلك شيئا ، فلا يجوز أن يكون ذلك مجزيا من الصدقة إذ شرط الصدقة وقوع الملك للمتصدق عليه . وأيضا فإن العتق واقع في ملك المولى غير منتقل إلى الغير ، ولذلك ثبت ولاؤه منه فغير جائز وقوعه عن الصدقة .

ولما قامت الحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الولاء لمن أعتق وجب أن لا يكون الولاء لغيره ، فإذا انتفى أن يكون الولاء إلا لمن أعتق ثبت أن المراد به المكاتبون .

وأيضا روى عبد الرحمن [ ص: 327 ] بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أعان مكاتبا في رقبته أو غازيا في عسرته أو مجاهدا في سبيل الله أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، فثبت بذلك أن الصدقة على المكاتبين معونة لهم في رقابهم حتى يعتقوا ، وذلك موافق لقوله تعالى : وفي الرقاب وروى طلحة اليماني عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال : قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم : علمني عملا يدخلني الجنة قال : لئن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة ، أعتق النسمة ، وفك الرقبة قال : أو ليسا سواء ؟ قال : لا عتق النسمة أن تفوز بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ، والمنحة الركوب ، والفيء على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع ، واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير فجعل عتق النسمة غير فك الرقبة ، فلما قال : وفي الرقاب كان الأولى أن يكون في معونتها بأن يعطى المكاتب حتى يفك العبد رقبته من الرق . وليس هو ابتياعها وعتقها ؛ لأن الثمن حينئذ يأخذه البائع ، وليس في ذلك قربة ، وإنما القربة في أن يعطى العبد نفسه حتى يفك به رقبته ، وذلك لا يكون إلا بعد الكتابة ؛ لأنه قبلها يحصل للمولى ، وإذا كان مكاتبا فما يأخذه لا يملكه المولى ، وإنما يحصل للمكاتب فيجزي من الزكاة .

وأيضا فإن عتق الرقبة يسقط حق المولى عن رقبته من غير تمليك ، ولا يحتاج فيه إلى إذن المولى ، فيكون بمنزلة من قضى دين رجل بغير أمره فلا يجزي من زكاته ، وإن دفعه إلى الغارم فقضى به دين نفسه جاز ؛ كذلك إذا دفعه إلى المكاتب فملكه أجزأه عن الزكاة ، وإذا أعتقه لم يجزه ؛ لأنه لم يملكه ، وحصل العتق بغير قبوله ولا إذنه

التالي السابق


الخدمات العلمية