[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شيد
[ ص: 4 ] بمنهاج دينه أركان الشريعة الغراء
[ ص: 5 ] وسدد بأحكامه فروع الحنيفية السمحاء من عمل به فقد اتبع سبيل المؤمنين ، ومن خرج عنه خرج عن مسالك المعتبرين ، أحمده سبحانه على ما علم ، وأشكره على ما هدى وقوم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، المالك الملك الحق المبين ، وأشهد أن سيدنا
محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين ، ونورا لسائر الخلائق إلى يوم الدين ، أرسله حين درست أعلام الهدى وظهرت أعلام الردى ، وانطمس منهج الحق وعفا ، وأشرف مصباح الصدق على الأنطفا ، فأعلى من الدين
[ ص: 6 ] معالمه ، وسن حكم الشرع دلائله ، فانشرح به صدور أهل الإيمان ، وانزاحت به شبهات أهل الطغيان .
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خلفاء الدين وحلفاء اليقين ، مصابيح الأمم ومفاتيح الكرم ، وكنوز العلم ورموز الحكم ، صلاة وسلاما دائمين متلازمين بدوام النعم والكرم .
( وبعد ) فإن العلوم وإن كانت تتعاظم شرفا وتطلع في سماء كوكبها شرفا ، وينفق العالم من خزائنها وكلما زاد ازداد رشدا
[ ص: 7 ] وعدم سرفا ، فلا مرية في أن الفقه واسطة عقدها ورابطة حللها وعقدها وخالصة الرائج من نقدها ، به يعرف الحلال والحرام ، ويدين الخاص والعام ، وتبين مصابيح الهدى من ظلام الضلال وضلال الظلام ، قطب الشريعة وأساسها ، وقلب الحقيقة الذي إذا صلح صلحت ورأسها ، وأهلة سراة الأرض الذين لولاهم لفسدت بسيادة جهالها وضلت أناسها :
لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
إيه ولولاهم لاتخذ الناس رؤساء جهالا ، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ، وخبطوا خبط عشواء حيثما قاموا وحلوا وشكت الأرض منهم وقع أقدام قوم استزلهم الشيطان فزلوا ، فلله در الفقهاء هم نجوم السماء
[ ص: 8 ] تشير إليهم بالأكف الأصابع وشم الأنوف ، يخضع إليهم كل شامخ الأنف رافع ، حلقوا على سور الإسلام كسوار المعصم قائلين لأهله والحق سامع :
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
زين الله الأرض بمواطئ أقدامهم فالشفاه تقبل خلالها ، وبإحاطة أحكامهم وإحكامهم تذكر حرامها وحلالها ، وترشف من زلالها ما حلا لها ، ولقد ساروا في مسالك الفقه غورا ونجدا ، وداروا عليه هائمين به وجدا ، فمنهم من سار على منهج منهاج الطريق الواضح أحسن سير ، وجرى في أحواله على منواله غير متعرض إلى غير ، ومنهم من جعل دأبه رد الخصوم وخصم المخالفين فلا يفوته الطائف في الأرض ولو أنه الطائر في السماء يحوم ، وإقامة الحجج والبراهين منها معالم للهدى ومصابيح للدجى
[ ص: 9 ] والأخريات رجوم ، وسيد طائفة العلماء من القرن السادس وإلى هذا الحين وصاحب الفضل على أهل المشارق والمغارب ذو الفضل المبين ، الضارب مع الأقدمين بسهم والناس تضرب في حديد بارد ، فهو المعول عليه عند كل صادر ووارد ، تقدم على أهل زمنه تقدم النص على القياس ، وسبق وهي تناديه ما في وقوفك ساعة من باس ، وتصدر ولو عورض لقال لسان الحال {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35100مروا أبا بكر فليصل بالناس } من أنفق من خزائن علمه ولم يخش من ذي العرش إقلالا هكذا هكذا وإلا فلالا ، قال : فلم يترك مقالا لقائل ، وتسامى فلم يسمع أين الثريا من يد المتناول وتعالى فكأنما هو للنيرين متطاول ، وتصاعد درج السيادة حتى فاق الآفاق وتباعد عن درجات معارضيه فساق أتباعه أمما وساق ، ومضى وخلف ذكرا باقيا
[ ص: 10 ] ما سطر علمه في الأوراق ، شيخ الإسلام بلا نزاع وبركة الأنام بلا دفاع القطب الرباني والعالم الصمداني
محيي الدين النووي ، تغمده الله برحمته ، ونفعنا والمسلمين ببركته بجاه
محمد وآله وعترته ، قد ملأ علمه الآفاق وأذعن له أهل الخلاف والوفاق ، وأجل مصنف له في المختصرات وتسكب على تحصيله العبرات ، كتاب المنهاج من لم تسمح بمثله القرائح ، ولم تطمح إلى النسج على منواله المطامح ، بهر به الألباب وأتى فيه بالعجب العجاب ، وأبرز مخبآت المسائل بيض الوجوه كريمة الأحساب ، أبدع فيه التأليف وزينه بحسن الترصيع والترصيف ، وأودعه المعاني الغزيرة بالألفاظ الوجيزة ، وقرب المقاصد البعيدة بالأقوال السديدة ، فهو يساجل المطولات على صغر حجمه ، ويباهل المختصرات بغزارة علمه ، ويطلع كالقمر سناء ويشرق كالشمس بهجة وضياء ، ولقد أجاد فيه القائل حيث قال :
قد صنف العلماء واختصروا فلم يأتوا بما اختصروه كالمنهاج
جمع الصحيح مع الفصيح وفاق بال ترجيح عند تلاطم الأمواج
[ ص: 11 ] لم لا وفيه مع النووي الرافعي حبران بل بحران كالعجاج
من قاسه بسواه مات وذاك من خسف ومن غبن وسوء مزاج
وقال الآخر :
لقيت خيرا يا نوي ووقيت من ألم النوى
فلقد نشا بك عالم لله أخلص ما نوى
وعلا علاه وفضله فضل الحبوب على النوى
جزاه الله تعالى عن صنيعه جزاء موفورا ، وجعل عمله متقبلا وسعيه مشكورا ، ولم تزل الأئمة الأعلام قديما وحديثا كل منهم مذعن لفضله ومشتغل بإقرائه وشرحه ، وعاد على كل منهم بركة علامة نوى فبلغ قصده ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فبعض شروحه على الغاية في التطويل ، وبعضها اقتصر فيه غالبا على الدليل والتعليل .
هذا وقد أردفه محقق زمانه وعالم أوانه وحيد دهره وفريد عصره في سائر العلوم ، المنثور منها والمنظوم ، شيخ مشايخ الإسلام عمدة الأئمة الأعلام
جلال الدين المحلي ، تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه فسيح جنته ، بشرح كشف به المعمى وجلا المغمى ، وفتح به مقفل أبوابه ويسر لطالبيه سلوك شعابه ، وضمنه ما يملأ الأسماع والنواظر ويحقق مقال القائل كم ترك الأول للآخر إلا أن القدر لم يساعده على إيضاحه ومنعه من ذلك خشية فجأة المقضي
[ ص: 12 ] من محتوم حمامه ، فتركه عسر الفهم كالألغاز لما احتوى عليه من غاية الإيجاز ، ولقد طالما سألني السادة الأفاضل والوارثون علم الأوائل في وضع شرح على المنهاج يوضح مكنونه ويبرز مصونه ، فأجبتهم إلى ذلك في شهر القعدة الحرام سنة ثلاث وستين وتسعمائة بعد تكرر رؤيا دلت على حصول المرام ، وأردفتهم بشرح يميط لثام مخدراته ويزيح ختام كنوزه ومستودعاته ، أنقح فيه الغث من السمين ، وأميز فيه المعمول به من غيره بتوضيح مبين ، أورد الأحكام فيه تتبختر اتضاحا ، وأترك الشبه تتضاءل افتضاحا ، أطلب حيث يقتضي المقام ، وأوجز إذا اتضح الكلام ، خال عن الإسهاب الممل ، وعن الاختصار المخل ، وأذكر فيه بعض القواعد وأضم إليه ما ظهر من الفوائد ، في ضمن تراكيب رائقة وأساليب فائقة ، ليتم بذلك الأرب ويقبل المشتغلون ينسلون إليه من كل حدب ، مقتصرا فيه على المعمول به في المذهب ، غير معتن بتحرير الأقوال الضعيفة روما للاختصار في الأغلب .
فحيث أقول فيه قالا أو رجحا فمرادي به إماما المذهب
الرافعي والمصنف تغمدهما الله بعفوه ومنه ، وأمطر على قبرهما شآبيب رحمته وفضله ، وحيث أطلقت لفظ الشارح فمرادي به محقق الوجود
الجلال المحلي عفا عنه الغفور الودود ، وربما أتعرض لحل بعض مواضعه المشكلة تيسيرا على الطلاب مستعينا في ذلك وغيره بعون الملك الوهاب ، وحيث أطلقت لفظ الشيخ فمرادي به شيخ مشايخ الإسلام
زكريا تغمده الله تعالى برحمته .
وما وجدته أيها الواقف على هذا الكتاب والمتمسك منه بما يوافق الصواب في كلامي من إطلاق أو تقييد أو ترجيح معزوا لوالدي وشيخي شيخ مشايخ الإسلام عمدة الأئمة العلماء الأعلام ، شيخ الفتوى والتدريس ومحل الفروع والتأسيس ، شيخ زمانه بالاتفاق بين أهل الخلاف والوفاق ، تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه بحبوحة جنته ، فهو المعول عليه عنده ; لأن رأيه عليه استقر ، وما عزي إليه مما يخالفه فبسبب ما هو شأن البشر ، وعمدتي في العزو لفتاويه ما قرأته منها عليه ، ثم مر عليها بنفسه ، وفي العزو لمعتمداته ما وجدته على أجل المؤلفات عنده مصححا بخطه لم يحل بينه وبين ذلك إلا السبب الناقل له لرمسه ، ووالله لم أقصد بذلك نقص أحد عن رتبته ، ولا التبحبح بنشر العلم وفضيلته ، وإنما القصد منه نصح المسلمين بإظهار الصواب خشية من آية نزلت في محكم الكتاب .
وأسأل الله من فضله أن يمن علي بإتمام هذا الشرح البديع المثال المنيع المنال ، الفائق بحسن نظامه على عقود اللآلئ ، الجامع
[ ص: 13 ] لفوائد ومحاسن قل أن تجتمع في مثله من كتاب في العصر الخوال ، أسست فيه ما يعين على فهم المنقول ، وبينت فيه مصاعد يرتقى فيها قاصد النقول ، فهو لباب العقول وعباب المنقول وصواب كل قول مقبول ، مخضت فيه عدة كتب من الفن مشتهرة ومؤلفات معتبرة ، من شروح الكتاب وشروح الإرشاد وشرحي البهجة والروض وشرح المنهج والتصحيح وغيرها للمتأخرين وإخواننا السادة الأفاضل المعاصرين على اختلاف تنوعها ، فأخذت زبدها ودررها ، ومررت على رياض جملة منها على كثرة عددها ، واقتطفت ثمرها وزهرها ، وغصت بحارها فاستخرجت جواهرها ودررها ، فلهذا تحصل فيه من العلوم والفوائد ما تبت عنده الأعناق بتا ، وتجمع فيه ما تفرق في مؤلفات شتى ، على أني لا أبيعه بشرط البراءة من كل عيب ، ولا ادعى أنه جمع سلامة كيف والبشر محل النقص بلا ريب وستفترق الناس فيه ثلاث فرق :
فرقة تعرف شمس محاسنه وتنكرها ، وتجتلي عرائسه وتلتقط فوائده وكأنها لا تبصرها ، ثم تتشعب قبيلتين خيرهما لا تنطق برؤيته ولا تذكرها ، والأخرى تبيت منه في نعم وتصبح تكفرها
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب
لعب بها شيطان الحسد وشد وثاقها الذي لا يوثق به بحبل من مسد وتصرف فيها والشيطان يجري من ابن
آدم مجرى الدم في الجسد ، تصرف فيهم فنوى كل منهم السوء ولكل امرئ ما نوى وتحكم فغوى بحكمه من غوى وجرى بهم في ميدان الحسد حتى صرف عن الهدى .
وآخر من فئة ثانية يسمع كلامه ولا يفهمه ، ويسبح في بحره ولا يعلمه ، ويصبح ظمآنا وفي البحر فمه ، ومثل هذا لا يفتقد حضوره إذا غاب ، ولا يؤهل لأن يعاب إذا عاب :
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
وآخر من فئة ثالثة يغترف من بحره ويعترف ببره وبره ، ويقتطف من زهره ما هو أزهر من الأفق وزهره ، ويلزم
[ ص: 14 ] الثناء عليه لزوم الخطب للمنابر والأقلام للمحابر والأفكار للخواطر ، وهذه الفرقة عزيزة الوجود ، ولئن وجدت فلعلها بعد سكن المؤلف اللحود :
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود
فالحسدة قوم غلب عليهم الجهل وطمهم وأعماهم حب الرياسة وأصمهم ، قد نكبوا عن علم الشريعة ونسوه ، وأكبوا على علم الفلاسفة وتدارسوه يريد الإنسان منهم أن يتقدم ويأبى الله إلا أن يزيده تأخيرا ويبغي العزة ولا علم عنده ، فلا يجد له وليا ولا نصيرا ، ومع ذلك فلا ترى إلا أنوفا مشمرة وقلوبا عن الحق مستكبرة ، وأقوالا تصدر عنهم مفتراة مزورة ، كلما هديتهم إلى الحق كان أصم وأعمى لهم ، كأن الله لم يوكل بهم حافظين يضبطون أقوالهم وأفعالهم ، فالعالم بينهم مرجوم تتلاعب به الجهال والصبيان ، والكامل عندهم مذموم داخل في كفة النقصان .
وايم الله إن هذا لهو الزمان الذي يلزم فيه السكوت والمصير جلسا من أجلاس البيوت ورد العلم إلى العمل ، لولا ما ورد في صحيح الأخبار {
nindex.php?page=hadith&LINKID=86012من علم علما فكتمه ألجمه الله بلجام من نار } ولله در القائل حيث قال :
ادأب على جمع الفضائل جاهدا وأدم لها تعب القريحة والجسد
واقصد بها وجه الإله ونفع من بلغته ممن تراه قد اجتهد
واترك كلام الحاسدين وبغيهم هملا فبعد الموت ينقطع الحسد
[ ص: 15 ] وأسأل الله تعالى إتمام هذا التوضيح على أسلوب بديع وسبيل بالنسبة إلى كثير من أبناء الزمان منيع ، مع أن الفكر عنه بغيره مقطوع ، ولم يمكن تيسر صرف النظر له إلا ساعة في الأسبوع ، هذا وأنا معترف بالعجز والقصور ، سائل فضل من وقف عليه أن يصلح ما يبدو له من فطور ، وأن يصفح عما فيه من زلل ، وأن ينعم بإصلاح ما يشاهده من خلل ، مسبلا علي ذيل كرمه ، متأملا كلمه قبل إجراء قلمه ، مستحضرا أن الإنسان محل النسيان ، وأن الصفح عن عثرات الضعاف من شيم الأشراف ، وأن الحسنات يذهبن السيئات ، فلله در القائل حيث قال :
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
وسميته : نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج راجيا أن المقتصر عليه يستغني به عن مطالعة ما سواه من أمثاله ، وأن يدرك به ما يرجوه من آماله ، ولا يمنع الواقف عليه داء الحسد أخذ ما فيه بالقبول ، ولا استصغار مؤلفه وقصر نظره في النقول ، فقد قال القائل :
لا زلت من شكري في حلة لابسها ذو سلب فاخر
يقول من تطرق أسماعه كم ترك الأول للآخر
فليس لكبر السن يفضل الفائل ، ولا لحدثانه يهتضم المصيب ، وإن كان لذلك الكلام أول قائل فلله در القائل حيث قال :
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل
[ ص: 16 ] ولقد أجاد القائل في قوله :
إني لأرحم حاسدي لفرط ما ضمت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم في جنة وقلوبهم في نار
لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي فكأنما برقعتها بنهار
وهذه الإطالة من باب الإرشاد والدلالة ، أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف ، وأجارنا من الجور والاعتساف ولما كانت الأعمال بالنيات وقريبا كل ما هو آت ، نويت به الثواب يوم النشور وطمعا في دعوة عبد صالح إذا صرت منجدلا في القبور ، لا الثناء على ذلك في دار الغرور .
واعلم أن التأسي بكتاب الله سنة متحتمة والعمل بالخبر الآتي طريقة ملتزمة ، وهذا التأليف أثر من آثارها وفيض من أنوارها ، فلذلك جرى المصنف كغيره على ذلك المنهج القويم والطريق المستقيم فقال :
[ ص: 3 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَيَّدَ
[ ص: 4 ] بِمِنْهَاجِ دِينِهِ أَرْكَانَ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ
[ ص: 5 ] وَسَدَّدَ بِأَحْكَامِهِ فُرُوعَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ مَنْ عَمِلَ بِهِ فَقَدْ اتَّبَعَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ خَرَجَ عَنْ مَسَالِكِ الْمُعْتَبِرِينَ ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا عَلَّمَ ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى مَا هَدَى وَقَوَّمَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، الْمَالِكُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وَنُورًا لِسَائِرِ الْخَلَائِقِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ، أَرْسَلَهُ حِينَ دَرَسَتْ أَعْلَامُ الْهُدَى وَظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى ، وَانْطَمَسَ مَنْهَجُ الْحَقِّ وَعَفَا ، وَأَشْرَفَ مِصْبَاحُ الصِّدْقِ عَلَى الأنطفا ، فَأَعْلَى مِنْ الدِّينِ
[ ص: 6 ] مَعَالِمَهُ ، وَسَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ دَلَائِلَهُ ، فَانْشَرَحَ بِهِ صُدُورُ أَهْلِ الْإِيمَانِ ، وَانْزَاحَتْ بِهِ شُبُهَاتُ أَهْلِ الطُّغْيَانِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ خُلَفَاءِ الدِّينِ وَحُلَفَاءِ الْيَقِينِ ، مَصَابِيحِ الْأُمَمِ وَمَفَاتِيحِ الْكَرَمِ ، وَكُنُوزِ الْعِلْمِ وَرُمُوزِ الْحِكَمِ ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ بِدَوَامِ النَّعَمِ وَالْكَرَمِ .
( وَبَعْدُ ) فَإِنَّ الْعُلُومَ وَإِنْ كَانَتْ تَتَعَاظَمُ شَرَفًا وَتَطْلُعُ فِي سَمَاءِ كَوْكَبِهَا شُرَفًا ، وَيُنْفِقُ الْعَالِمُ مِنْ خَزَائِنِهَا وَكُلَّمَا زَادَ ازْدَادَ رُشْدًا
[ ص: 7 ] وَعَدِمَ سَرَفًا ، فَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ الْفِقْهَ وَاسِطَةُ عِقْدِهَا وَرَابِطَةُ حُلَلِهَا وَعِقْدِهَا وَخَالِصَةُ الرَّائِجِ مِنْ نَقْدِهَا ، بِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ ، وَيَدِينُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ ، وَتَبِينُ مَصَابِيحُ الْهُدَى مِنْ ظَلَامِ الضَّلَالِ وَضَلَالِ الظَّلَامِ ، قُطْبُ الشَّرِيعَةِ وَأَسَاسُهَا ، وَقَلْبُ الْحَقِيقَةِ الَّذِي إذَا صَلَحَ صَلَحَتْ وَرَأْسُهَا ، وَأَهِلَّةُ سُرَاةِ الْأَرْضِ الَّذِينَ لَوْلَاهُمْ لَفَسَدَتْ بِسِيَادَةِ جُهَّالِهَا وَضَلَّتْ أُنَاسُهَا :
لَا تُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ وَلَا سُرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا
إيه وَلَوْلَاهُمْ لَاتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ، وَخَبَطُوا خَبْطَ عَشْوَاءَ حَيْثُمَا قَامُوا وَحَلُّوا وَشَكَتْ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَقْعَ أَقْدَامِ قَوْمٍ اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ فَزَلُّوا ، فَلِلَّهِ دَرُّ الْفُقَهَاءِ هُمْ نُجُومُ السَّمَاءِ
[ ص: 8 ] تُشِيرُ إلَيْهِمْ بِالْأَكُفِّ الْأَصَابِعُ وَشُمُّ الْأُنُوفِ ، يَخْضَعُ إلَيْهِمْ كُلُّ شَامِخِ الْأَنْفِ رَافِعٍ ، حَلَّقُوا عَلَى سُوَرِ الْإِسْلَامِ كَسِوَارِ الْمِعْصَمِ قَائِلِينَ لِأَهْلِهِ وَالْحَقُّ سَامِعٌ :
أَخَذْنَا بِآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمْ لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ
زَيَّنَ اللَّهُ الْأَرْضَ بِمَوَاطِئِ أَقْدَامِهِمْ فَالشِّفَاهُ تُقَبِّلُ خِلَالَهَا ، وَبِإِحَاطَةِ أَحْكَامِهِمْ وَإِحْكَامِهِمْ تَذْكُرُ حَرَامَهَا وَحَلَالَهَا ، وَتَرْشُفُ مِنْ زُلَالِهَا مَا حَلَا لَهَا ، وَلَقَدْ سَارُوا فِي مَسَالِكِ الْفِقْهِ غَوْرًا وَنَجْدًا ، وَدَارُوا عَلَيْهِ هَائِمِينَ بِهِ وَجْدًا ، فَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ عَلَى مَنْهَجِ مِنْهَاجِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَحْسَنَ سَيْرٍ ، وَجَرَى فِي أَحْوَالِهِ عَلَى مِنْوَالِهِ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ إلَى غَيْرٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ دَأْبَهُ رَدَّ الْخُصُومِ وَخَصْمَ الْمُخَالِفِينَ فَلَا يَفُوتُهُ الطَّائِفُ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ أَنَّهُ الطَّائِرُ فِي السَّمَاءِ يَحُومُ ، وَإِقَامَةَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ مِنْهَا مَعَالِمُ لِلْهُدَى وَمَصَابِيحُ لِلدُّجَى
[ ص: 9 ] وَالْأُخْرَيَاتُ رُجُومٌ ، وَسَيِّدُ طَائِفَةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْقَرْنِ السَّادِسِ وَإِلَى هَذَا الْحِينِ وَصَاحِبُ الْفَضْلِ عَلَى أَهْلِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ذُو الْفَضْلِ الْمُبِينِ ، الضَّارِبُ مَعَ الْأَقْدَمِينَ بِسَهْمٍ وَالنَّاسُ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدٍ ، فَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ صَادِرٍ وَوَارِدٍ ، تَقَدَّمَ عَلَى أَهْلِ زَمَنِهِ تَقَدُّمَ النَّصِّ عَلَى الْقِيَاسِ ، وَسَبَقَ وَهِيَ تُنَادِيهِ مَا فِي وُقُوفِك سَاعَةٌ مِنْ بَاسِ ، وَتَصَدَّرَ وَلَوْ عُورِضَ لَقَالَ لِسَانُ الْحَالِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35100مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ } مَنْ أَنْفَقَ مِنْ خَزَائِنِ عِلْمِهِ وَلَمْ يَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالًا هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَالَا ، قَالَ : فَلَمْ يَتْرُكْ مَقَالًا لِقَائِلٍ ، وَتَسَامَى فَلَمْ يَسْمَعْ أَيْنَ الثُّرَيَّا مِنْ يَدِ الْمُتَنَاوِلِ وَتَعَالَى فَكَأَنَّمَا هُوَ لِلنَّيِّرَيْنِ مُتَطَاوِلٌ ، وَتَصَاعَدَ دَرَجَ السِّيَادَةِ حَتَّى فَاقَ الْآفَاقَ وَتَبَاعَدَ عَنْ دَرَجَاتِ مُعَارِضِيهِ فَسَاقَ أَتْبَاعَهُ أُمَمًا وَسَاقَ ، وَمَضَى وَخَلَّفَ ذِكْرًا بَاقِيًا
[ ص: 10 ] مَا سَطَرَ عِلْمَهُ فِي الْأَوْرَاقِ ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِلَا نِزَاعٍ وَبَرَكَةُ الْأَنَامِ بِلَا دِفَاعٍ الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ وَالْعَالِمُ الصَّمَدَانِيُّ
مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ ، وَنَفَعَنَا وَالْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَتِهِ بِجَاهِ
مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَعِتْرَتِهِ ، قَدْ مَلَأَ عِلْمُهُ الْآفَاقَ وَأَذْعَنَ لَهُ أَهْلُ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ ، وَأَجَلُّ مُصَنَّفٍ لَهُ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ وَتُسْكَبُ عَلَى تَحْصِيلِهِ الْعَبَرَاتُ ، كِتَابُ الْمِنْهَاجِ مَنْ لَمْ تَسْمَحْ بِمِثْلِهِ الْقَرَائِحُ ، وَلَمْ تَطْمَحْ إلَى النَّسْجِ عَلَى مِنْوَالِهِ الْمَطَامِحُ ، بَهَرَ بِهِ الْأَلْبَابَ وَأَتَى فِيهِ بِالْعَجَبِ الْعُجَابِ ، وَأَبْرَزَ مُخَبَّآتِ الْمَسَائِلِ بِيضَ الْوُجُوهِ كَرِيمَةَ الْأَحْسَابِ ، أَبْدَعَ فِيهِ التَّأْلِيفَ وَزَيَّنَهُ بِحُسْنِ التَّرْصِيعِ وَالتَّرْصِيفِ ، وَأَوْدَعَهُ الْمَعَانِيَ الْغَزِيرَةَ بِالْأَلْفَاظِ الْوَجِيزَةِ ، وَقَرَّبَ الْمَقَاصِدَ الْبَعِيدَةَ بِالْأَقْوَالِ السَّدِيدَةِ ، فَهُوَ يُسَاجِلُ الْمُطَوَّلَاتِ عَلَى صِغَرِ حَجْمِهِ ، وَيُبَاهِلُ الْمُخْتَصَرَاتِ بِغَزَارَةِ عِلْمِهِ ، وَيَطْلُعُ كَالْقَمَرِ سَنَاءً وَيُشْرِقُ كَالشَّمْسِ بَهْجَةً وَضِيَاءً ، وَلَقَدْ أَجَادَ فِيهِ الْقَائِلُ حَيْثُ قَالَ :
قَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ وَاخْتَصَرُوا فَلَمْ يَأْتُوا بِمَا اخْتَصَرُوهُ كَالْمِنْهَاجِ
جَمَعَ الصَّحِيحَ مَعَ الْفَصِيحِ وَفَاقَ بِال تَرْجِيحِ عِنْدَ تَلَاطُمِ الْأَمْوَاجِ
[ ص: 11 ] لِمَ لَا وَفِيهِ مَعَ النَّوَوِيِّ الرَّافِعِيُّ حَبْرَانِ بَلْ بَحْرَانِ كَالْعَجَاجِ
مَنْ قَاسَهُ بِسِوَاهُ مَاتَ وَذَاكَ مِنْ خَسْفٍ وَمِنْ غَبْنٍ وَسُوءِ مِزَاجٍ
وَقَالَ الْآخَرُ :
لَقِيت خَيْرًا يَا نَوِيُّ وَوُقِيَتْ مِنْ أَلَمِ النَّوَى
فَلَقَدْ نَشَا بِك عَالِمٌ لِلَّهِ أَخْلَصَ مَا نَوَى
وَعَلَا عُلَاهُ وَفَضْلُهُ فَضْلَ الْحُبُوبِ عَلَى النَّوَى
جَزَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ صَنِيعِهِ جَزَاءً مَوْفُورًا ، وَجَعَلَ عَمَلَهُ مُتَقَبَّلًا وَسَعْيَهُ مَشْكُورًا ، وَلَمْ تَزَلْ الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا كُلٌّ مِنْهُمْ مُذْعِنٌ لِفَضْلِهِ وَمُشْتَغِلٌ بِإِقْرَائِهِ وَشَرْحِهِ ، وَعَادَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ بَرَكَةُ عَلَّامَةٍ نَوَى فَبَلَغَ قَصْدَهُ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَبَعْضُ شُرُوحِهِ عَلَى الْغَايَةِ فِي التَّطْوِيلِ ، وَبَعْضُهَا اقْتَصَرَ فِيهِ غَالِبًا عَلَى الدَّلِيلِ وَالتَّعْلِيلِ .
هَذَا وَقَدْ أَرْدَفَهُ مُحَقِّقُ زَمَانِهِ وَعَالِمُ أَوَانِهِ وَحِيدُ دَهْرِهِ وَفَرِيدُ عَصْرِهِ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ ، الْمَنْثُورِ مِنْهَا وَالْمَنْظُومِ ، شَيْخُ مَشَايِخِ الْإِسْلَامِ عُمْدَةُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ
جَلَالُ الدِّينِ الْمَحَلِّيُّ ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ ، بِشَرْحٍ كَشَفَ بِهِ الْمُعَمَّى وَجَلَا الْمُغْمَى ، وَفَتَحَ بِهِ مُقْفَلَ أَبْوَابِهِ وَيَسَّرَ لِطَالِبِيهِ سُلُوكَ شِعَابِهِ ، وَضَمَّنَهُ مَا يَمْلَأُ الْأَسْمَاعَ وَالنَّوَاظِرَ وَيُحَقِّقُ مَقَالَ الْقَائِلِ كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ إلَّا أَنَّ الْقَدَرَ لَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَى إيضَاحِهِ وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ فَجْأَةِ الْمَقْضِيِّ
[ ص: 12 ] مِنْ مَحْتُومِ حَمَامِهِ ، فَتَرْكُهُ عُسْرَ الْفَهْمِ كَالْأَلْغَازِ لِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ غَايَةِ الْإِيجَازِ ، وَلَقَدْ طَالَمَا سَأَلَنِي السَّادَةُ الْأَفَاضِلُ وَالْوَارِثُونَ عِلْمَ الْأَوَائِلِ فِي وَضْعِ شَرْحٍ عَلَى الْمِنْهَاجِ يُوَضِّحُ مَكْنُونَهُ وَيُبْرِزُ مَصُونَهُ ، فَأَجَبْتهمْ إلَى ذَلِكَ فِي شَهْرِ الْقَعْدَةِ الْحَرَامِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَتِسْعِمِائَةٍ بَعْدَ تَكَرُّرِ رُؤْيَا دَلَّتْ عَلَى حُصُولِ الْمَرَامِ ، وَأَرْدَفْتهمْ بِشَرْحٍ يُمِيطُ لِثَامَ مُخَدَّرَاتِهِ وَيُزِيحُ خِتَامَ كُنُوزِهِ وَمُسْتَوْدَعَاتِهِ ، أُنَقِّحُ فِيهِ الْغَثَّ مِنْ السَّمِينِ ، وَأُمَيِّزُ فِيهِ الْمَعْمُولَ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ بِتَوْضِيحٍ مُبِينٍ ، أُورِدَ الْأَحْكَامَ فِيهِ تَتَبَخْتَرُ اتِّضَاحًا ، وَأَتْرُكُ الشَّبَهَ تَتَضَاءَلُ افْتِضَاحًا ، أَطْلُبُ حَيْثُ يَقْتَضِي الْمَقَامُ ، وَأُوجِزُ إذَا اتَّضَحَ الْكَلَامُ ، خَالٍ عَنْ الْإِسْهَابِ الْمُمِلِّ ، وَعَنْ الِاخْتِصَارِ الْمُخِلِّ ، وَأَذْكُرُ فِيهِ بَعْضَ الْقَوَاعِدِ وَأَضُمُّ إلَيْهِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْفَوَائِدِ ، فِي ضِمْنِ تَرَاكِيبَ رَائِقَةٍ وَأَسَالِيبَ فَائِقَةٍ ، لِيَتِمَّ بِذَلِكَ الْأَرَبُ وَيُقْبِلُ الْمُشْتَغِلُونَ يَنْسَلُّونَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ ، مُقْتَصِرًا فِيهِ عَلَى الْمَعْمُولِ بِهِ فِي الْمَذْهَبِ ، غَيْرَ مُعْتَنٍ بِتَحْرِيرِ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ رَوْمًا لِلِاخْتِصَارِ فِي الْأَغْلَبِ .
فَحَيْثُ أَقُولُ فِيهِ قَالَا أَوْ رَجَّحَا فَمُرَادِي بِهِ إمَامَا الْمَذْهَبِ
الرَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ تَغَمَّدَهُمَا اللَّهُ بِعَفْوِهِ وَمِنْهُ ، وَأَمْطَرَ عَلَى قَبْرِهِمَا شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ ، وَحَيْثُ أَطْلَقْت لَفْظَ الشَّارِحِ فَمُرَادِي بِهِ مُحَقِّقُ الْوُجُودِ
الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ عَفَا عَنْهُ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ، وَرُبَّمَا أَتَعَرَّضُ لِحَلِّ بَعْضِ مَوَاضِعِهِ الْمُشْكِلَةِ تَيْسِيرًا عَلَى الطُّلَّابِ مُسْتَعِينًا فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ بِعَوْنِ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ ، وَحَيْثُ أَطْلَقْت لَفْظَ الشَّيْخِ فَمُرَادِي بِهِ شَيْخُ مَشَايِخِ الْإِسْلَامِ
زَكَرِيَّا تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ .
وَمَا وَجَدْته أَيُّهَا الْوَاقِفُ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ وَالْمُتَمَسِّكِ مِنْهُ بِمَا يُوَافِقُ الصَّوَابَ فِي كَلَامِي مِنْ إطْلَاقٍ أَوْ تَقْيِيدٍ أَوْ تَرْجِيحٍ مَعْزُوًّا لِوَالِدِي وَشَيْخِي شَيْخِ مَشَايِخِ الْإِسْلَامِ عُمْدَةِ الْأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ ، شَيْخِ الْفَتْوَى وَالتَّدْرِيسِ وَمَحَلِّ الْفُرُوعِ وَالتَّأْسِيسِ ، شَيْخِ زَمَانِهِ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ أَهْلِ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَأَسْكَنَهُ بُحْبُوحَةَ جَنَّتِهِ ، فَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ رَأْيَهُ عَلَيْهِ اسْتَقَرَّ ، وَمَا عُزِيَ إلَيْهِ مِمَّا يُخَالِفُهُ فَبِسَبَبِ مَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ ، وَعُمْدَتِي فِي الْعَزْوِ لِفَتَاوِيهِ مَا قَرَأْته مِنْهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ ، وَفِي الْعَزْوِ لَمُعْتَمَدَاتِهِ مَا وَجَدْته عَلَى أَجَلِّ الْمُؤَلَّفَاتِ عِنْدَهُ مُصَحَّحًا بِخَطِّهِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ إلَّا السَّبَبُ النَّاقِلُ لَهُ لِرَمْسِهِ ، وَوَاللَّهِ لَمْ أَقْصِدْ بِذَلِكَ نَقْصَ أَحَدٍ عَنْ رُتْبَتِهِ ، وَلَا التَّبَحْبُحَ بِنَشْرِ الْعِلْمِ وَفَضِيلَتِهِ ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ مِنْهُ نُصْحُ الْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ الصَّوَابِ خَشْيَةَ مِنْ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي مُحْكَمِ الْكِتَابِ .
وَأَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيَّ بِإِتْمَامِ هَذَا الشَّرْحِ الْبَدِيعِ الْمِثَالِ الْمَنِيعِ الْمَنَالِ ، الْفَائِقِ بِحُسْنِ نِظَامِهِ عَلَى عُقُودِ اللَّآلِئِ ، الْجَامِعِ
[ ص: 13 ] لِفَوَائِدَ وَمَحَاسِنَ قَلَّ أَنْ تَجْتَمِعَ فِي مِثْلِهِ مِنْ كِتَابٍ فِي الْعُصُرِ الْخُوَّالِ ، أَسَّسْت فِيهِ مَا يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْمَنْقُولِ ، وَبَيَّنْت فِيهِ مَصَاعِدَ يُرْتَقَى فِيهَا قَاصِدُ النُّقُولِ ، فَهُوَ لُبَابُ الْعُقُولِ وَعُبَابُ الْمَنْقُولِ وَصَوَابُ كُلِّ قَوْلٍ مَقْبُولٍ ، مَخَّضْت فِيهِ عِدَّةَ كُتُبٍ مِنْ الْفَنِّ مُشْتَهِرَةٍ وَمُؤَلَّفَاتٍ مُعْتَبَرَةٍ ، مِنْ شُرُوحِ الْكِتَابِ وَشُرُوحِ الْإِرْشَادِ وَشَرْحَيْ الْبَهْجَةِ وَالرَّوْضِ وَشَرْحِ الْمَنْهَجِ وَالتَّصْحِيحِ وَغَيْرِهَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَإِخْوَانِنَا السَّادَةِ الْأَفَاضِلِ الْمُعَاصِرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ تَنَوُّعِهَا ، فَأَخَذْت زُبْدَهَا وَدُرَرَهَا ، وَمَرَرْت عَلَى رِيَاضٍ جُمْلَةً مِنْهَا عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهَا ، وَاقْتَطَفْت ثَمَرَهَا وَزَهْرَهَا ، وَغُصْت بِحَارَهَا فَاسْتَخْرَجْت جَوَاهِرَهَا وَدُرَرَهَا ، فَلِهَذَا تَحَصَّلَ فِيهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْفَوَائِدِ مَا تُبَتُّ عِنْدَهُ الْأَعْنَاقُ بَتًّا ، وَتَجَمَّعَ فِيهِ مَا تَفَرَّقَ فِي مُؤَلَّفَاتٍ شَتَّى ، عَلَى أَنِّي لَا أَبِيعُهُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ، وَلَا ادَّعَى أَنَّهُ جَمَعَ سَلَامَةَ كَيْفٍ وَالْبَشَرُ مَحَلُّ النَّقْصِ بِلَا رَيْبٍ وَسَتَفْتَرِقُ النَّاسُ فِيهِ ثَلَاثَ فِرَقٍ :
فِرْقَةٌ تَعْرِفُ شَمْسَ مَحَاسِنِهِ وَتُنْكِرُهَا ، وَتَجْتَلِي عَرَائِسَهُ وَتَلْتَقِطُ فَوَائِدَهُ وَكَأَنَّهَا لَا تُبْصِرُهَا ، ثُمَّ تَتَشَعَّبُ قَبِيلَتَيْنِ خَيْرُهُمَا لَا تَنْطِقُ بِرُؤْيَتِهِ وَلَا تَذْكُرُهَا ، وَالْأُخْرَى تَبِيتُ مِنْهُ فِي نَعَمٍ وَتُصْبِحُ تُكَفِّرُهَا
وَأَظْلَمُ أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ حَاسِدًا لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ
لَعِبَ بِهَا شَيْطَانُ الْحَسَدِ وَشَدَّ وِثَاقَهَا الَّذِي لَا يُوثَقُ بِهِ بِحَبْلٍ مِنْ مَسَدٍ وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَالشَّيْطَانُ يَجْرِي مِنْ ابْنِ
آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فِي الْجَسَدِ ، تَصَرَّفَ فِيهِمْ فَنَوَى كُلٌّ مِنْهُمْ السُّوءَ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى وَتَحَكَّمَ فَغَوَى بِحُكْمِهِ مَنْ غَوَى وَجَرَى بِهِمْ فِي مَيْدَانِ الْحَسَدِ حَتَّى صُرِفَ عَنْ الْهُدَى .
وَآخَرُ مِنْ فِئَةٍ ثَانِيَةٍ يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَلَا يَفْهَمُهُ ، وَيَسْبَحُ فِي بَحْرِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ ، وَيُصْبِحُ ظَمْآنًا وَفِي الْبَحْرِ فَمُهُ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُفْتَقَدُ حُضُورُهُ إذَا غَابَ ، وَلَا يُؤَهَّلُ لَأَنْ يُعَابَ إذَا عَابَ :
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِنْ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
وَآخَرُ مِنْ فِئَةٍ ثَالِثَةٍ يَغْتَرِفُ مِنْ بَحْرِهِ وَيَعْتَرِفُ بِبِرِّهِ وَبِرِّهِ ، وَيَقْتَطِفُ مِنْ زَهْرِهِ مَا هُوَ أَزْهَرُ مِنْ الْأُفُقِ وَزَهْرِهِ ، وَيَلْزَمُ
[ ص: 14 ] الثَّنَاءُ عَلَيْهِ لُزُومَ الْخُطَبِ لِلْمَنَابِرِ وَالْأَقْلَامِ لِلْمَحَابِرِ وَالْأَفْكَارِ لِلْخَوَاطِرِ ، وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ عَزِيزَةُ الْوُجُودِ ، وَلَئِنْ وُجِدَتْ فَلَعَلَّهَا بَعْدَ سَكَنِ الْمُؤَلِّفِ اللُّحُودَ :
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ
لَوْلَا اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَتْ مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ الْعُودِ
فَالْحَسَدَةُ قَوْمٌ غَلَبَ عَلَيْهِمْ الْجَهْلُ وَطَمَّهُمْ وَأَعْمَاهُمْ حُبُّ الرِّيَاسَةِ وَأَصَمَّهُمْ ، قَدْ نُكِبُوا عَنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَنَسُوهُ ، وَأَكَبُّوا عَلَى عِلْمِ الْفَلَاسِفَةِ وَتَدَارَسُوهُ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ مِنْهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يَزِيدَهُ تَأْخِيرًا وَيَبْغِي الْعِزَّةَ وَلَا عِلْمَ عِنْدَهُ ، فَلَا يَجِدُ لَهُ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا تَرَى إلَّا أُنُوفًا مُشَمِّرَةً وَقُلُوبًا عَنْ الْحَقِّ مُسْتَكْبِرَةً ، وَأَقْوَالًا تَصْدُرُ عَنْهُمْ مُفْتَرَاةً مُزَوَّرَةً ، كُلَّمَا هَدَيْتهمْ إلَى الْحَقِّ كَانَ أَصَمَّ وَأَعْمَى لَهُمْ ، كَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوَكِّلْ بِهِمْ حَافِظِينَ يَضْبِطُونَ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ ، فَالْعَالِمُ بَيْنَهُمْ مَرْجُومٌ تَتَلَاعَبُ بِهِ الْجُهَّالُ وَالصِّبْيَانُ ، وَالْكَامِلُ عِنْدَهُمْ مَذْمُومٌ دَاخِلٌ فِي كِفَّةِ النُّقْصَانِ .
وَاَيْمُ اللَّهِ إنَّ هَذَا لَهْوُ الزَّمَانُ الَّذِي يَلْزَمُ فِيهِ السُّكُوتُ وَالْمَصِيرُ جِلْسًا مِنْ أَجْلَاسِ الْبُيُوتِ وَرَدُّ الْعِلْمَ إلَى الْعَمَلِ ، لَوْلَا مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْأَخْبَارِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=86012مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ حَيْثُ قَالَ :
ادْأَبْ عَلَى جَمْعِ الْفَضَائِلِ جَاهِدًا وَأَدِمْ لَهَا تَعَبَ الْقَرِيحَةِ وَالْجَسَدْ
وَاقْصِدْ بِهَا وَجْهَ الْإِلَهِ وَنَفْعَ مَنْ بَلَغَتْهُ مِمَّنْ تَرَاهُ قَدْ اجْتَهَدْ
وَاتْرُكْ كَلَامَ الْحَاسِدِينَ وَبَغْيَهُمْ هَمَلًا فَبَعْدَ الْمَوْتِ يَنْقَطِعُ الْحَسَدْ
[ ص: 15 ] وَأَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى إتْمَامَ هَذَا التَّوْضِيحِ عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعٍ وَسَبِيلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَثِيرٍ مِنْ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ مَنِيعٍ ، مَعَ أَنَّ الْفِكْرَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ مَقْطُوعٌ ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَيَسُّرُ صَرْفِ النَّظَرِ لَهُ إلَّا سَاعَةً فِي الْأُسْبُوعِ ، هَذَا وَأَنَا مُعْتَرِفٌ بِالْعَجْزِ وَالْقُصُورِ ، سَائِلٌ فَضْلَ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ مَا يَبْدُو لَهُ مِنْ فُطُورٍ ، وَأَنْ يَصْفَحَ عَمَّا فِيهِ مِنْ زَلَلٍ ، وَأَنْ يُنْعِمَ بِإِصْلَاحِ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ خَلَلٍ ، مُسْبِلًا عَلَيَّ ذَيْلَ كَرَمِهِ ، مُتَأَمِّلًا كَلِمَهُ قَبْلَ إجْرَاءِ قَلَمِهِ ، مُسْتَحْضِرًا أَنَّ الْإِنْسَانَ مَحَلُّ النِّسْيَانِ ، وَأَنَّ الصَّفْحَ عَنْ عَثَرَاتِ الضِّعَافِ مِنْ شِيَمِ الْأَشْرَافِ ، وَأَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ، فَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ حَيْثُ قَالَ :
وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا كَفَى الْمَرْءَ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهُ
وَسَمَّيْته : نِهَايَةُ الْمُحْتَاجِ إلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ رَاجِيًا أَنَّ الْمُقْتَصِرَ عَلَيْهِ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ مُطَالَعَةِ مَا سِوَاهُ مِنْ أَمْثَالِهِ ، وَأَنْ يُدْرِكَ بِهِ مَا يَرْجُوهُ مِنْ آمَالِهِ ، وَلَا يَمْنَعُ الْوَاقِفَ عَلَيْهِ دَاءُ الْحَسَدِ أَخْذَ مَا فِيهِ بِالْقَبُولِ ، وَلَا اسْتِصْغَارَ مُؤَلِّفِهِ وَقَصْرِ نَظَرِهِ فِي النُّقُولِ ، فَقَدْ قَالَ الْقَائِلُ :
لَا زِلْت مِنْ شُكْرِي فِي حُلَّةٍ لَابِسُهَا ذُو سَلَبٍ فَاخِرِ
يَقُولُ مَنْ تَطْرُقُ أَسْمَاعُهُ كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ
فَلَيْسَ لِكِبَرِ السِّنِّ يَفْضُلُ الْفَائِلُ ، وَلَا لِحِدْثَانِهِ يُهْتَضَمُ الْمُصِيبُ ، وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ الْكَلَامِ أَوَّلُ قَائِلٍ فَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ حَيْثُ قَالَ :
وَإِنِّي وَإِنْ كُنْت الْأَخِيرَ زَمَانُهُ لَآتٍ بِمَا لَمْ تَسْتَطِعْهُ الْأَوَائِلُ
[ ص: 16 ] وَلَقَدْ أَجَادَ الْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ :
إنِّي لَأَرْحَمُ حَاسِدِيَّ لِفَرْطِ مَا ضَمَّتْ صُدُورُهُمْ مِنْ الْأَوْغَارِ
نَظَرُوا صَنِيعَ اللَّهِ بِي فَعُيُونُهُمْ فِي جَنَّةٍ وَقُلُوبُهُمْ فِي نَارِ
لَا ذَنْبَ لِي قَدْ رُمْت كَتْمَ فَضَائِلِي فَكَأَنَّمَا بَرْقَعْتهَا بِنَهَارِ
وَهَذِهِ الْإِطَالَةُ مِنْ بَابِ الْإِرْشَادِ وَالدَّلَالَةِ ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ حَسَدٍ يَسُدُّ بَابَ الْإِنْصَافِ ، وَأَجَارَنَا مِنْ الْجَوْرِ وَالِاعْتِسَافِ وَلَمَّا كَانَتْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَقَرِيبًا كُلُّ مَا هُوَ آتٍ ، نَوَيْت بِهِ الثَّوَابَ يَوْمَ النُّشُورِ وَطَمَعًا فِي دَعْوَةِ عَبْدٍ صَالِحٍ إذَا صِرْت مُنْجَدِلًا فِي الْقُبُورِ ، لَا الثَّنَاءَ عَلَى ذَلِكَ فِي دَارِ الْغُرُورِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأَسِّي بِكِتَابِ اللَّهِ سُنَّةٌ مُتَحَتِّمَةٌ وَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ الْآتِي طَرِيقَةٌ مُلْتَزَمَةٌ ، وَهَذَا التَّأْلِيفُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا وَفَيْضٌ مِنْ أَنْوَارِهَا ، فَلِذَلِكَ جَرَى الْمُصَنِّفُ كَغَيْرِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ فَقَالَ :