واعلم أن عقود التوثقات والأمانات إذا اشتملت على جمل فإنه يمكن فيها توزيع أفراد الجملة أو أجزائها على أفراد الجملة المقابلة لها أو على أجزاء العين المقابلة لها فيقابل كل مفرد لمفرد أو كل مفرد لجزء أو كل جزء لجزء ، ويمكن توزيع كل فرد من الجملة على مجموع أفراد الجملة الأخرى أو أجزائها فيثبت الاشتراك بالإشاعة ويكون العقد على هذين الاحتمالين واحدا ويمكن أن يثبت حكم التوثقة والأمانة بكماله لكل فرد فرد فيكون هاهنا عقود متعددة وقد ذكرنا في هذه المسائل التفريع على هذه الاحتمالات الثلاثة : فأما عقود التمليكات فلا يتأتى فيها الاحتمال الثالث ولو قيل بتعدد الصفقة فيما يتعدد المتعاقدين لاستحالة أن يكون الملك ثابتا في عين واحدة لمالكين على الكمال ، وإنما يقع التردد فيها بين الاحتمالين الأولين . ويستثنى من ذلك صورتان :
إحداهما : أن كما هو المشهور من المذهب فيكون كل منهما مستحقا للعين لكمالها ويقع التزاحم فيشتركان في قسمها ، فلو مات أحدهما قبل الموصي أو رد لاستحقها الآخر بكمالها . يوصي بعين لزيد ثم يوصي بها لعمرو ويقول : ليس برجوع
والثانية : أن يقف على قوم معينين أو موصوفين ثم على آخرين بعدهم فإن كل واحد من الطبقة الأولى مستحق لجميع الوقف بانفراده حتى لو لم يبق من الطبقة سواه لاستحق الوقف كله هكذا ذكره والأصحاب . القاضي
وقد نص عليه في رواية أحمد يوسف بن أبي موسى ومحمد بن عبيد الله المنادي فيمن دفع ذلك إلى ولده يعني الواقف وولد أولادهم يجري ذلك عليهم ما تناسلوا وقد ولد هؤلاء القوم الذين وقف عليهم أولادا هل يدخلون مع آبائهم [ ص: 256 ] في القسمة أو يصير هذا الشيء إليهم بعد الموت موت آبائهم ومن مات منهم ولم يخلف ولدا يرجع نصيبه إلى إخوته أم لا ؟ قال : يجري ذلك على الولد وولد الولد يتوارثون ذلك حتى لا يكون للميت ولد فيرد على الباقين من إخوته وظاهر كلامه أنه يكون ترتيب أفراد بين كل ولد ووالده لقوله يتوارثون ذلك . وجعل قول الواقف من مات عن ولد فنصيبه لولده مقتضيا لهذا الترتيب ومخصصا لعموم أول الكلام المقتضي للتشريك . وقف ضيعة على ولده وأولادهم وأولاد أولادهم أبدا ما تناسلوا فإن حدث بواحد منهم حدث الموت
وقد زعم الشيخ أن كلام مجد الدين في المجرد يدل على خلاف ذلك وأنه يكون مشتركا بين الأولاد وأولادهم ثم يضاف إلى كل ولد نصيب والده بعد موته ، وليس في كلام القاضي ما يدل على ذلك لمن راجعه وتأمله . وأما قوله حتى لا يكون للميت ولد فيرد على الباقين من إخوته فيعني به أن من مات عن غير ولد فنصيبه لإخوته وهذا قد يدل لما ذكره الأصحاب أن من مات من طبقة انتقل نصيبه إلى الباقين منها بإطلاق الواقف وقد يقال : لا دلالة فيه على ذلك ; لأن هذا الواقف وقف على ولده وولد ولده أبدا بالتشريك فلو تركنا هذا ضرتك بين البطون كلها لكنه استثنى من ذلك أن من مات عن ولد فنصيبه لولده ففهم منه أن الولد لا يستحق مع والده فيبقى ما عداه داخلا في عموم أول الكلام فاستحقاق الإخوة هاهنا متلقى من كلام الواقف ومثل هذا لا نزاع فيه ، وإنما النزاع فيما إذا لم يدل كلام الواقف عليه ولا يقال : قد دل كلام الواقف عليه حيث جعله بعد تلك الطبقة لطبقة أخرى فلم يجعل للثانية فيه حقا فيه مع وجود الأولى فدل على أن الأولى هي المستحقة ما دامت موجودة ; لأنه قد . القاضي
يجاب عنه بأن نفي استحقاق الثانية مع وجود الأولى لا يدل على أن الأولى هي المستحقة لجميعه لجواز صرفه مصرف المنقطع إلا أن هذا بعيد من مقصود الواقف والأظهر من مقصوده ما ذكرنا فعلى هذا يكون عوده إلى بقية الطبقة مستفادا من معنى كلام الواقف ، ويشبه ذلك ما لو وقف على فلان فإذا انقرض أولاده فعلى المساكين فهل يكون بعد موت فلان لأولاده ؟ ثم من بعدهم على المساكين أو تصرف بعد موت فلان مصرف المنقطع حتى تنقرض أولاده ، ثم يصرف على المساكين أو تصرف بعد موت فلان مصرف المنقطع حتى تنقرض أولاده ، ثم يصرف على المساكين على وجهين مذكورين في الكافي .
والأول قول القاضي ، ولنا في المسألة مسلك آخر وهو أن يقال الوقف تحبيس للمال في وجوه البر والموقوف عليهم هو المصرف المعين لاستحقاقه فلا يمنع أن يستحقه لكل واحد منهم بانفراده ، ويقع التزاحم فيه عند الاجتماع بخلاف التمليكات المحضة فإنه يستحيل أن يملك كل واحد من المملكين جميع ما وقع فيه التمليك ، وهذا على قولنا أن الموقوف عليه لا يملك عين الوقف أظهر ، ويتعلق بهذا من مسائل التوزيع ما إذا وقف على أولاده ثم على أولاد أولاده أبدا فهل يقال : لا ينتقل إلى أحد من أولاد أولاده [ ص: 257 ] إلا بعد انقراض جميع أولاده أو ينتقل بعد كل ولد إلى ولده ؟ المعروف عند الأصحاب الأول وهو الذي ذكره وابن عقيل وأصحابه ومن اتبعهم . القاضي
وحكى الشيخ تقي الدين رحمه الله وجها آخر بالثاني ورجحه فعلى الأول يكون من باب توزيع الجملة على الجملة ، وعلى الثاني يكون من باب توزيع المفرد على المفرد ، ويشهد لهذا من كلام ما رواه عنه أحمد يوسف بن أبي موسى ومحمد بن عبيد الله المنادي في يدفع إلى ولده أو يرد على شركائه ولم يقل الميت إن مات علي بن إسماعيل دفع إلى ولد ولده إنما قال ولد علي بن إسماعيل ، قال الإمام رجل أوقف ضيعة على أن لعلي بن إسماعيل ربع غلتها ما دام حيا وربعا منها لولد عبد الله وولد محمد وولد أحمد بينهم بالسوية وإن مات علي بن إسماعيل فوزعوا هذين الربعين بين ولده وولد الثلاثة ففعلوا ذلك . ثم إن بعض ولد علي بن إسماعيل مات وترك ولدا كيف نصنع بنصيبه : يدفع ما جعل لولد علي بن إسماعيل إلى ولده فإن مات بعض ولد علي بن إسماعيل دفع إلى ولده أيضا ; لأنه قال : بين ولد علي بن إسماعيل وهذا من ولد علي بن إسماعيل فدل هذا الكلام على أصلين : أحمد
أحدهما ، أن ولد الولد داخل في مسمى الولد عند الإطلاق .
والثاني : أنه إنما يستحقه ولد الولد بعد موت أبيه ويختص به دون طبقة أبيه المشاركين له حيث ذكر [ أن ] ابن إسماعيل توفي عن ولد وأن بعض ولده توفي عن ولد ونقل إلى هذا الولد نصيب أبيه مع وجود المشاركين للأب من إخوته ، ووجه هذا أنه لما رتب بين علي بن إسماعيل وولده ولم يجعل لولده شيئا إلا بعد موته فكذلك ينبغي أن يكون الترتيب بين ولده وولد ولده وهذا خلاف ما ذكره الأصحاب من الوجهين في كيفية استحقاق ولد الولد إذا قيل بدخوله في مطلق الولد هل يستحق مع الولد مشركا أو بعد انقراض الولد كلهم مرتبا ترتيب طبقة على طبقة فإن جعله مرتبا ترتيب أفراد بين كل ولد وولده فيؤخذ من ذلك أن من وقف على أولاده ثم على أولادهم أبدا أن يكون مرتبا بين كل والد وولده وبين بقية طبقته . أحمد
وقد يفرق بينهما بأن الوقف هاهنا أولا كان بين شخص وولده فروعي هذا الترتيب في استحقاق ولده وولد ولده وليس في طبقة بعد طبقة ولكن سنذكر من كلام في مسألة التدبير ما يحسن تخريج هذا الوجه منه إن شاء الله تعالى . أحمد