وأما أهل الأهواء فكان . كثير من الجهمية والمعتزلة ونحوهم يكذب بما في البرزخ من النعيم والعذاب ، ولا يقر بما يكون في القبر ، كما ينكرون أيضا وجود الجنة والنار ، ولا يعتقدون نعيما ولا عذابا ولا ثوابا ولا عقابا إلا عند القيامة الكبرى
ثم منهم من يقول : ليست الروح شيئا باقيا بدون البدن . وبعض هؤلاء يقر بعذاب القبر ونعيمه للجسد فقط دون روح باقية دونه . وهذا كثير في مقالات طوائف من أهل الكلام ، وهم يتكلمون في إحداث العالم وإفنائه . وقد يزعمون أن العالم يفنى بجملته ثم يعاد . ومنهم من يزعم أنه يفنى بعد دخول الجنة والنار ، وأنهما يفنيان ، كما يذكر ذلك عن . وزعم الجهم بن صفوان أبو الهذيل أن حركاتهم تفنى ، وأمثال هذه المقالات .
وفي مقابلة هؤلاء طوائف من . [ ص: 115 ] الفلاسفة المشائين وغيرهم ومن قد يتبعهم من المليين يكذبون بالقيامة العامة ، وإنما يقرون بالقيامة التي هي انقراض القرون ، والطوفانات العامة ، وبأن من مات فقد قامت قيامته
ويقرون بمعاد الأرواح دون الأبدان ، ولا يقرون بتغيير هذا العالم ، ولا بشق السماوات وانفطارها ، وتكوير الشمس والقمر ، واستحالة الأجسام العلوية ، كما جاءت به النصوص . بل يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويتأولون ذلك على أنه أمثال مضروبة لحال المعاد الجزئي ، وهو حال النفس عند مفارقة البدن . ولا يقرون بإحداث ولا إفناء .
وقد تكلمنا من الرد على الطائفتين في غير هذا الموضع بما ليس هذا موضعه ، لكن المقصود هنا أن القرآن لما كان هو كتاب الله الذي أنزله وهدى به عباده ، وجعله تفصيلا لكل شيء ، وبين فيه ما كان وما سيكون ، وأخبر فيه من أمر المبدأ والمعاد والخلق والبعث بما فيه بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين كان من بليغ ذلك أنه سبحانه يذكر في السورة الواحدة أمر المعادين جميعا ، والقيامة الكبرى مع الصغرى التي هي الموت ، كما ذكر ذلك في سورة الواقعة ، فإنه سبحانه في أولها ذكر القيامة الكبرى ، وذكر انقسام الناس إلى ثلاثة أصناف ، ثم في آخرها ذكر ذلك عند الموت ، فقال في أولها : إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم إلى قوله : وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل إن الأولين [ ص: 116 ] والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [الواقعة :1 - 50] . ثم ذكر من آيات المعاد ما ذكر ، ثم قال في آخر السورة : أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم [الواقعة :81 - 96] . وهذا حال الإنسان عند الموت كما قال : فهلا تردونها ، أي تردون النفس عند قبضها .
وكذلك قال سبحانه في سورة الأنعام : ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده [الأنعام :2] ، فالأجل المسمى هذا المحدود المقدر هو الذي يشترك فيه العباد ، وهو أجل القيامة الكبرى ، والأجل الأول هو الموت ، ولهذا قيل : قد ينقص من هذا الأجل فتزاد هذه الروح ، وقد يزاد فيه فتنقص هذه الروح ، والأجل المسمى لا يزاد ولا ينقص ، وهو وقت القيامة الذي لا يعلمه إلا الله .
ومن ذلك أنه ذكر هذين أيضا في سورة القيامة ، فقال : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة [القيامة :1 - 2] ، فأقسم بالأمرين جميعا : [ ص: 117 ]
بيوم القيامة وهو يوم الجمع ويوم القيامة الجامعة ، وأقسم بالنفس وهي التي أصل القيامة الصغرى ، فإن الصابئة الفلاسفة ونحوهم مدار أمرهم في هذا المعاد على إثبات النفس . وقرر أولا سبحانه القيامة الكبرى فقال : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة [القيامة :3 - 6] . والإنسان إنما ينكر وينتظر القيامة الكبرى ، وأما الموت فكل أحد يعلم به . ولهذا كره للخطباء أن يقتصروا في خطب الجمع والأعياد على التذكير بالموت ونحوه من الأمور التي لا يختص بها المؤمنون ، وأحبوا أن يكون التذكير بما في اليوم الآخر مما أخبرت به الرسل .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العدد من خطبه ق والقرآن المجيد [ق :1] لتضمنها ذلك ، ويقرأ يوم الجمعة الم تنزيل [السجدة :1 - 2] ، و هل أتى [الإنسان :1] ؛ إذ في هاتين السورتين ما يكون في الجمعة من الخلق والبعث ؛ إذ فيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة . وهاتان السورتان تضمنتا ذلك .
ثم إنه لما ذكر القيامة قال : كلا إذا بلغت التراقي} وقيل من راق [ ص: 118 ] وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق [القيامة :26 - 30] . وهذا . روى ذكر لحال الموت في تفسيره وغيره من حديث أبو بكر بن المنذر عن هشام الدستوائي عمرو بن مالك عن عن أبي الجوزاء : حتى إذا بلغت التراقي ، قال : تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه قالوا : من يصعد بنفسه ؟ ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ؟ فذلك قوله : ابن عباس وقيل من راق .
وروى أيضا عن عن أبيه قال : بلغني عن معتمر بن سليمان التيمي قال : يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيهم يرقى به . أبي العالية
وذكر طائفة أن الراقي : الطبيب ، والطبيب أيضا إنما يطلب في الدنيا لا في القيامة ، فروى عن عن سفيان الثوري سليمان التيمي عن شبيب عن : أبي قلابة وقيل من راق قال : من طبيب شاف ؟
وروى أيضا عن ابن ثور عن وعن ابن جريج عن معمر في [ ص: 119 ] قوله : قتادة وقيل من راق ، قال : الطبيب .
وعن سهيل عن أبي صالح : وقيل من راق قال : من طبيب .
وعن : الضحاك بن مزاحم وقيل من راق قال : هو الطبيب .
وعن أبي عبيدة وقيل من راق : من يرقي .
وعلى القولين فالضمير في «بلغت » للنفس ، قال ابن ثور عن في قوله : ابن جريج كلا إذا بلغت التراقي قال : الحلقوم .
وعن أبي عبيدة بلغت التراقي : صارت النفس بين تراقيه .
ولهذا قال : وظن أنه الفراق ؛ لفراق النفس البدن ، وقد روي أيضا عن سفيان عن أنه كان يقرأ : «وأيقن أنه الفراق » . عمرو بن دينار
وعن أبي سعيد عن قتادة وظن أنه الفراق : استيقن أنه الفراق .
وقوله : من راق يجوز أن يراد به الطبيب الراقي ، والراقي الذي [ ص: 120 ] يصعد بالنفس ويرقى بها ، إذ كلا القولين يقال ، وهذا إما على أن اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه ، أو على أن الكلمة نزلت مرتين ، فأريد بها هذا المعنى في مرة ، وهذا المعنى في مرة . مع أن الراقي الذي هو الطبيب أظهر ، لقوله : وقيل من راق ، وهذا ذكر لفاعل مخلوق واستفهام عن راق منكر . وهذا ظاهر من حال أهل المريض ، والملائكة معلومون لله ، والله هو الذي يأمرهم بقبض الروح ويعين فاعل ذلك ، فلا يكون هناك من يقول : هل من راق ؟ ولا اختصام في ذلك .