الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    ومن طلق عقيب العقد من غير مهلة ، ثم جاءت بولد .

                    فإن قيل : فقد ألغى النبي صلى الله عليه وسلم الشبه في لحوق النسب ، كما في " الصحيح " : { أن رجلا قال له : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل لك من إبل ؟ قال : نعم .

                    قال : فما ألوانها ؟ قال : حمر ، قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم ، إن فيها لورقا ، قال : فأنى لها ذلك ؟ قال : عسى أن يكون نزعه عرق ، قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق
                    } . [ ص: 188 ]

                    قيل : إنما لم يعتبر الشبه هاهنا لوجود الفراش الذي هو أقوى منه ، كما في حديث ابن أمة زمعة ، ولا يدل على ذلك على أنه لا يعتبر مطلقا ، بل في الحديث ما يدل على اعتبار الشبه ، فإنه صلى الله عليه وسلم أحال على نوع آخر من الشبه ، وهو نزع العرق ، وهذا الشبه أولى لقوته بالفراش ، والله أعلم .

                    قالت الحنفية : إذا لم ينازع مدعي الولد غيره فهو له ، وإن نازعه غيره ، فإن كان أحدهما صاحب فراش : قدم على الآخر ، فإن الولد للفراش ، وإن استويا في عدم الفراش ، فإن ذكر أحدهما علامة بجسده ووصفه بصفة فهو له ، وإن لم يصفه واحد منهما ، فإن كانا رجلين ، أو رجلا وامرأة : ألحق بهما ، وإن كانا امرأتين ، فقال أبو حنيفة : يلحق بهما حكما ، مع العلم بأنه لم يخرج إلا من إحداهما ، ولكن ألحقه بهما في الحكم ، كما لو كان المدعى به مالا ، فأجري الإنسان مجرى الأموال والحقوق .

                    وقال أبو يوسف ومحمد : لا يلحق بهما ، كما قال الجمهور ، للقطع بأنه يستحيل أن يولد منهما ، بخلاف الرجلين ، فإنه يمكن تخليقه من مائهما ، كما يخلق من ماء الرجل والمرأة .

                    قالوا : وقد دل على اعتبار العلامات : قصة شاهد يوسف ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للملتقط : { اعرف عفاصها ووكاءها ووعاءها ، فإن جاء صاحبها فعرفها فأدها إليه } ( 19 ) .

                    قالوا : ولو أثرت القافة والشبه في نتاج الآدمي لأثر ذلك في نتاج الحيوان ، فكنا نحكم بالشبه في ذلك ، كما نحكم به بين الآدميين ، ولا نعلم بذلك قائلا .

                    قالوا : ولأن الشبه أمر مشهود مدرك بحاسة البصر ، فإما أن يحصل لنا ذلك بالمشاهدة أو لا يحصل ، فإن حصل لم تكن في القائف فائدة ، ولا حاجة إليه ، وإن لم يحصل لنا بالمشاهدة لم نصدق القائف ، فإنه يدعي أمرا حسيا لا يدرك بالحس .

                    قالوا : وقد دل الحس على وقوع التشابه بين الأجانب الذين لا نسب بينهم ، ووقوع التخالف والتباين بين ذوي النسب الواحد ، وهذا أمر معلوم بالمشاهدة لا يمكن جحده ، فكيف يكون دليلا على النسب ، ويثبت به التوارث والحرمة والمحرمية وسائر أحكام النسب ؟ .

                    قالوا : والاستلحاق موجب للحوق النسب ، وقد وجد في المتداعيين وتساويا فيه ، فيجب أن يتساويا في حكمه ، فإنه يمكن كونه منهما ، وقد استلحقه كل واحد منهما ، والاستلحاق أقوى من الشبه ، ولهذا : لو استلحقه مستلحق ووجدنا شبها بينا بغيره : ألحقناه بمن استلحقه ، ولم نلتفت إلى الشبه .

                    قالوا : ولأن القائف إما شاهد وإما حاكم ، فإن كان شاهدا فمستند شهادته الرؤية ، وهو وغيره فيها سواء ، فجرى تفرده في الشهادة مجرى شهادة واحد من بين الجمع العظيم بأمر لو وقع لشاركوه في العلم به ، ومثل هذا لا يقبل . [ ص: 189 ] وإن كان حاكما : فالحاكم لا بد له من طريق يحكم بها ، ولا طريق هاهنا إلا الرؤية والشبه ، وقد عرف أنه لا يصلح طريقا .

                    قالوا : ولو كانت القافة طريقا شرعيا لما عدل عنها داود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما في قصة الولد الذي ادعته المرأتان ، بل حكم به داود للكبرى ، وحكم به سليمان للصغرى بالقرينة التي استدل بها من شفقتها عليه بإقرارها به للكبرى ، ولم يعتبر قافة ولا شبها . قالوا : وقد روى زيد بن أرقم قال : { أتي علي رضي الله عنه - وهو باليمن - بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد ، فسأل اثنين : أتقران لهذا بالولد ؟ قالا : لا ، حتى سألهم جميعا ، فجعل كلما سأل اثنين قالا : لا ، فأقرع بينهم ، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة ، وجعل عليه ثلثي الدية ، قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك ، حتى بدت نواجذه } وفي لفظ { فمن قرع فله الولد ، وعليه لصاحبيه ثلثا الدية } . وفي لفظ { فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ، لا أعلم إلا ما قال علي } أخرجه الإمام أحمد في " المسند " وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في صحيحه " .

                    قال أبو محمد بن حزم : هذا خبر مستقيم السند ، نقلته كلهم ثقات . ا هـ . وهذا حديث مداره على الشعبي وقد رواه عنه جماعة واختلف عليه . فرواه يحيى بن سعيد القطان ، وخالد بن عبد الله الواسطي ، وعبد الله بن نمير ، ومالك بن إسماعيل النهدي ، وقيس بن الربيع ، عن الأجلح يحيى بن عبد الله بن حجية الكندي - عن الشعبي عن عبد الله بن الخليل الحضرمي الكوفي عن زيد بن أرقم ، ومن هذا الوجه : أورده الحاكم . وكذلك رواه سفيان بن عيينة ، وعلي بن مسهر عن الأجلح ، وقالا : عبد الله بن أبي الخليل . ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن الشعبي عن أبي الخليل أو ابن أبي الخليل " أن ثلاثة نفر اشتركوا " ولم يذكر زيدا ، ولم يرفعه . ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن صالح بن صالح الهمداني عن الشعبي عن عبد خير الحضرمي . ورواه ابن عيينة وجرير بن عبد الحميد وعبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن سالم عن الشعبي عن علي بن ذريح - ويقال : ذري الحضرمي - عن زيد ، ورواه خالد بن عبد الله الواسطي عن أبي إسحاق الشيباني عن سليمان بن فيروز - عن الشعبي عن رجل من حضرموت عن زيد . [ ص: 190 ] وبالجملة فيكفي أن في هذا الحديث أمير المؤمنين ، وفي الحديث شعبة ، وإذا كان شعبة في حديث لم يكن باطلا ، وكان محفوظا

                    وقد عمل به أهل الظاهر ، وهو وجه للشافعية عند تعارض البينة ، وهو ظاهر - بل صريح - في عدم اعتبار القافة ، فإنها لو كانت معتبرة لم يعدل عنها إلى القرعة . قالوا : وأصح ما معكم : حديث أسامة بن زيد ، ولا حجة فيه ، لأن النسب هناك ثابت بالفراش ، فوافقه قول القائف فسر النبي صلى الله عليه وسلم بموافقة قول القائف لشرعه الذي جاء به من أن الولد للفراش وهذا الإخفاء به ، فمن أين يصلح ذلك لإثبات كون القافة طريقا مستقلا بإثبات النسب ؟ .

                    قال أصحاب الحديث : نحن إنما نحتاج إلى القافة عند التنازع في الولد ، نفيا وإثباتا ، كما إذا ادعاه رجلان أو امرأتان ، أو اعترف الرجلان بأنهما وطئا المرأة بشبهة ، وأن الولد من أحدهما ، وكل منهما ينفيه عن نفسه ، وحينئذ : فإما أن نرجح أحدهما بلا مرجح ، ولا سبيل إليه ، وإما أن نلغي دعواهما فلا يلحق بواحد منهما ، وهو باطل أيضا ، فإنهما معترفان بسبب اللحوق ، وليس هنا سبب غيرهما وإما أن يلحق بهما مع ظهور الشبه البين بأحدهما .

                    وهو أيضا باطل شرعا وعرفا وقياسا كما تقدم . وإما أن يقدم أحدهما بوصفه لعلامات في الولد . كما يقدم واصف اللقطة .

                    وهذا - أيضا - لا اعتبار به هاهنا . بخلاف اللقطة . والفرق بينهما ظاهر . فإن اطلاع غير الأب على بدن الطفل وعلاماته غير مستبعد بل هو واقع كثيرا ، فإن الطفل بارز ظاهر لوالديه وغيرهما ، وأما اطلاع غير مالك اللقطة على عددها وعفاصها ووعائها ووكائها : فأمر في غاية الندرة ، فإن العادة جارية بإخفائها وكتمانها ، فإلحاق إحدى الصورتين بالأخرى ممتنع . وأما الإلحاق بأمين فمقطوع ببطلانه واستحالته ، عقلا وحسا ، فهو كإلحاق ابن ستين سنة بابن عشرين . وكيف ينكر القافة التي مدارها على الشبه الذي وضعه الله سبحانه بين الوالدين والولد من يلحق الولد بأمين ؟ فأين أحد هذين الحكمين من الآخر ، في العقل والشرع والعرف والقياس ؟ .

                    وما أثبت الله ورسوله قط حكما من الأحكام يقطع ببطلان سببه حسا أو عقلا ، فحاشا أحكامه سبحانه من ذلك ، فإنه لا أحسن حكما منه سبحانه وتعالى ولا أعدل ، ولا يحكم حكما يقول العقل : ليته حكم بخلافه ، بل أحكامه كلها مما يشهد العقل والفطرة بحسنها ، ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها ، وأنه لا يصلح في موضعها سواها .

                    وأنت إذا عرضت على العقول كون الولد من أمين لم تجد قبولها له كقبولها لكون الولد لمن [ ص: 191 ] أشبه الشبه البين ، فإن هذا موافق لعادة الله وسنته في خلقه ، وذلك مخالف لعادته وسنته .

                    وقولهم : " إنهما استويا في سبب الإلحاق - وهو الدعوى - فيستويان في الحكم ، وهو لحوق النسب " .

                    فيقال : القاعدة أن صحة الدعوى يطلب بيانها من غير جهة المدعي مهما أمكن ، وقد أمكن هاهنا بيانها بالشبه البين يطلع عليه القائف ، فكان اعتبار صحتها بذلك أولى من اعتبار صحتها بمجرد الدعوى ، فإذا انتفى السبب الذي يبين صحتها من غير جهة المدعي - كالفراش والقافة - بغير إعمال الدعوى ، فإذا استويا فيها استويا في حكمها - فهذا محض الفقه ومقتضى قواعد الشرع . وأما أن تعمل الدعوى المجردة مع ظهور ما يخالفها من الشبه البين الذي نصبه الله سبحانه وتعالى علامة لثبوت النسب شرعا وقدرا : فهذا مخالف للقياس ولأصول الشرع .

                    وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { البينة على المدعي } ( 21 ) " والبينة " اسم لما يبين صحة الدعوى والشبه : بين صحة الدعوى ، فإذا كان من جانب أحد المتلاعنين كان النسب له ، وإن كان من جهتهما كان النسب لهما .

                    وقولهم : " لو أثر الشبه والقافة في نتاج الآدمي لأثر في نتاج الحيوان " . جوابه من وجوه : أحدها : منع الملازمة ، إذ لم يذكروا عليها دليلا سوى مجرد الدعوى ، فأين التلازم شرعا وعقلا بين الناس ؟

                    الثاني : أن الشارع يتشوف إلى ثبوت الأنساب مهما أمكن ، ولا يحكم بانقطاع النسب إلا حيث يتعذر إثباته ، ولهذا ثبت بالفراش وبالدعوى وبالأسباب التي بمثلها لا يثبت نتاج الحيوان .

                    الثالث : أن إثبات النسب فيه حق لله وحق للولد وحق للأب ، ويترتب عليه من أحكام الوصل . بين العباد ما به قوام مصالحهم ما يترتب ، فأثبته الشرع بأنواع الطرق التي لا يثبت بمثلها نتاج الحيوان .

                    الرابع : أن سببه الوطء ، وهو إنما يقع غالبا في غاية التستر ، ويكتم عن العيون وعن اطلاع القريب والبعيد عليه ، فلو كلف البينة على سببه لضاعت أنساب بني آدم ، وفسدت أحكام الصلات التي بينهم ، ولهذا ثبت بأيسر شيء من فراش ودعوى وشبه ، حتى أثبته أبو حنيفة بمجرد العقد ، مع القطع بعدم وصول أحدهما إلى الآخر ، وأثبته لأمين مع القطع بعدم خروجه منهما احتياطا للنسب ، ومعلوم أن الشبه أولى وأقوى من ذلك بكثير . [ ص: 192 ]

                    الخامس : أن المقصود من نتاج الحيوان : إنما هو المال المجرد ، فدعواه دعوى مال محض ، بخلاف دعوى النسب ، فأين دعوى المال من دعوى النسب ؟ وأين أسباب ثبوت أحدهما من أسباب ثبوت الآخر ؟ .

                    السادس : أن المال يباح بالبذل ، ويعارض عليه ، ويقبل النقل ، وتجوز الرغبة عنه ، والنسب بخلاف ذلك .

                    السابع : أن الله سبحانه جعل بين أشخاص الآدميين من الفروق في صورهم وأصواتهم وحلاهم ما يتميز به بعضهم من بعض ، ولا يقع معه الاشتباه بينهم ، بحيث يتساوى الشخصان من كل وجه إلا في غاية الندرة ، مع أنه لا بد من الفرق وهذا القدر لا يوجد مثله بين أشخاص الحيوان ، بل التشابه فيه أكبر والتماثل أغلب ، فلا يكاد الحس يميز بين نتاج الحيوان ونتاج غيره برد كل منهما إلى أمه وأبيه ، وإن كان قد يقع ذلك ، لكن وقوعه قليل بالنسبة إلى أشخاص الآدمي ، فإلحاق أحدهما بالآخر ممتنع .

                    الثامن : قولهم : " إن الاعتماد في القافة على الشبه ، وهو أمر مدرك بالحس فإن حصل بالمشاهدة ، فلا حاجة إلى القائف ، وإن لم يحصل لم يقبل قول القائف " .

                    جوابه أن يقال : الأمور المدركة بالحس نوعان : نوع يشترك فيه الخاص والعام ، كالطول والقصر ، والبياض والسواد ونحو ذلك ، فهذا لا يقبل فيه تفرد المخبر والشاهد بما لا يدركه الناس معه .

                    والثاني : ما لا يلزم فيه الاشتراك ، كرؤية الهلال ، ومعرفة الأوقات ، وأخذ كل من الليل والنهار في الزيادة والنقصان ، ونحو ذلك مما يختص بمعرفته أهل الخبرة ، من تعديل القسمة ، وكبر الحيوان وصغره ، والخرص ونحو ذلك ، فهذا وأمثاله مما مستنده الحس ولا يجب الاشتراك فيه ، فيقبل فيه قول الواحد والاثنين . ومن هذا : التشابه - بل والتماثل - بين الآدميين ، فإن التشابه بين الولد والوالد يظهر في صورة الطفل وشكله ، وهيئة أعضائه ، ظهورا خفيا ، يختص بمعرفته القائف دون غيره ، ولهذا كانت العرب تعرف ذلك لبني مدلج ، وتقر لهم به ، مع أنه لا يختص بهم ، ولا يشترط كون القائف منهم .

                    قال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد عن القائف : هل يقضى بقوله ؟ قال : يقضى بقوله إذا علم ، وأهل الحجاز يعرفون ذلك وشرط بعض الشافعية كونه مدلجيا ، وهذا ضعيف جدا لا يلتفت إليه .

                    قال عبد الرحمن بن حاطب : " كنت جالسا عند عمر ، فجاءه رجلان في غلام ، كلاهما يدعي أنه ابنه ، فقال عمر رضي الله عنه : ادعوا لي أخا بني المصطلق ، فجاء فقال : انظر ابن أيهما تراه ؟ فقال : قد اشتركا فيه " وذكر بقية الخبر ، وبنو المصطلق بطن من خزاعة لا نسب لهم في بني مدلج . [ ص: 193 ] وكذلك إياس بن معاوية كان غاية في القيافة وهو من مزينة ، وشريح بن الحارث القاضي كان قائفا ، وهو من كندة ، وقد قال أحمد : أهل الحجاز يعرفون ذلك ، ولم يخصه ببني مدلج .

                    والمقصود : أن أهل القيافة كأهل الخبرة وأهل الخرص والقاسمين وغيرهم ، ممن اعتمادهم على الأمور المشاهدة المرئية لهم ، ولهم فيها علامات يختصون بمعرفتها : من التماثل والاختلاف والقدر والمساحة وأبلغ من ذلك : الناس يجتمعون لرؤية الهلال ، فيراه من بينهم الواحد والاثنان ، فيحكم بقوله أو قولهما دون بقية الجمع .

                    قولهم : " إنا ندرك التشابه بين الأجانب ، والاختلاف بين المشتركين في النسب " . قلنا : نعم ، لكن الظاهر الأكثر خلاف ذلك ، وهو الذي أجرى الله سبحانه وتعالى به العادة ، وجواز التخلف عن الدليل والعلامة الظاهرة في النادر : لا يخرجه عن أن يكون دليلا عند عدم معارضة ما يقاومه ، ألا ترى أن الفراش دليل على النسب والولادة ، وأنه ابنه ؟ ويجوز - بل يقع كثيرا - تخلف دلالته ، وتخليق الولد من غير ماء صاحب الفراش ، ولا يبطل ذلك كون الفراش دليلا ، وكذلك أمارات الخرص والقسمة والتقويم وغيرها : قد تتخلف عنها أحكامها ومدلولاتها ، ولا يمنع ذلك اعتبارها ، وكذلك شهادة الشاهدين وغيرهما ، وكذلك الأقراء والقرء الواحد في الدلالة على براءة الرحم ، فإنها دليل ظاهر مع جواز تخلف دلالته ، ووقوع ذلك وأمثال ذلك كثير .

                    قولهم : " إن الاستلحاق موجب للحوق النسب ، وقد اشتركا فيه ، فيشتركان في موجبه " . قلنا : هذا صحيح إذا لم يتميز أحدهما بأمر خارج عن الدعوى ، فأما إذا تميز بأمر آخر ، كالفراش والشبه : كان اللحاق به ، كما لو تميز بالبينة ، بل الشبه نفسه بينة من أقوى البينات ، فإنها اسم لما يبين الحق ويظهره ، وظهور الحق هاهنا بالشبه : أقوى من ظهوره بشهادة من يجوز عليه الوهم والغلط والكذب ، وأقوى بكثير من الفراش يقطع بعدم اجتماع الزوجين فيه . قولهم : " القائف إما شاهد وإما حاكم . .. إلخ " .

                    قلنا : هذا فيه قولان لمن يقول بالقافة ، هما روايتان عن أحمد ، ووجهان لأصحاب الشافعي ، مبنيان على أن القائف : هل هو حاكم أو شاهد ؟ عند طائفة من أصحابنا وعند آخرين : ليسا مبنيين على ذلك ، بل الخلاف جار ، سواء قلنا : القائف حاكم أو شاهد ، كما نعتبر حاكمين في جزاء الصيد . وكذلك إذا قبلنا قوله وحده : جاز ذلك ، وإن جعلناه شاهدا ، كما نقبل قول القاسم والخارص والمقوم والطبيب ونحوهم وحده .

                    ومنهم من يبني الخلاف على كونه شاهدا أو مخبرا ، فإن جعلناه مخبرا اكتفي بخبره وحده ، كالخبر عن الأمور الدينية ، وإن جعلناه شاهدا لم نكتف بشهادته وحده ، وهذا أيضا ضعيف ، فإن الشاهد [ ص: 194 ] مخبر ، والمخبر شاهد وكل من شهد بشيء فقد أخبر به ، والشريعة لم تفرق بين ذلك أصلا ، وإنما هذا على أصل من اشترط في قبول الشهادة لفظ " الشهادة " دون مجرد الإخبار .

                    وقد تقدم بيان ضعف ذلك ، وأنه لا دليل عليه ، بل الأدلة كثيرة - من الكتاب والسنة - تدل على خلافه .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية