المسألة التاسعة : إن لم يتوجه عليه المسير إلى الحج بإجماع من الأمة ; فإن الحج إنما فرضه الله على المستطيع إجماعا ; والمريض والمغصوب لا استطاعة لهما ; فإن رووا أن الصحيح قد تضمن عن النبي صلى الله عليه وسلم { كان مريضا أو مغصوبا } . [ ص: 379 ] أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : نعم ، حجي عنه . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته ؟ قالت : نعم قال : فدين الله أحق أن يقضى
وقد قال بهذا الحديث جماعة من المتقدمين ، واختاره من المتأخرين ، وأبى ذلك الحنفية والمالكية ، وهم فيه أعدل قضية ; فإن مقصود الحديث الحث على بر الوالدين والنظر في مصالحهم دينا ودنيا ، وجلب المنفعة إليهما جبلة وشرعا فإنه رأى من المرأة انفعالا بينا ، وطواعية ظاهرة ، ورغبة صادقة في بر أبيها ، وتأسفت أن تفوته بركة الحج ، ويكون عن ثواب هذه العبادة بمعزل ، وطاعت بأن تحج عنه ; فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم فيه . الشافعي
وكأن في هذا الحديث جواز ; لأنها عبادة بدنية مالية ، والبدن وإن كان لا يحتمل النيابة فإن المال يحتملها فروعي في هذه العبادة جهة المال ، وجازت فيه النيابة . وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بجواز النيابة في غير هذا الموضع ، وضرب المثل بأنه لو كان على أبيها دين عبد لسعت في قضائه ، فدين الله أحق بالقضاء ، إن كان لا يلزمها تخليصه من مأثم الدين وعار الاقتضاء ، فدين الله أحق بالقضاء ; وهذه الكلمة أقوى ما في الحديث ، فإنه جعله دينا ، ولكن لم يرد به هذا الشخص المخصوص ، فإنما أراد به دين الله إذا وجب فهو أحق بالقضاء ، والتطوع به أولى من الابتداء . حج الغير عن الغير
والدليل على أن الحج في هذا الحديث ليس بفرض ما صرحت به المرأة في قولها : " إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة " وهذا تصريح بنفي الوجوب ومنع الفريضة ، ولا يجوز ما انتفى في أول الحديث قطعا أن يثبت في آخره ظنا . يحققه أن دين الله أحق أن يقضى ليس على ظاهره بإجماع ; فإن دين العبد أولى بالقضاء ، وبه يبدأ إجماعا لفقر الآدمي واستغناء الله تعالى ، فيتعين الغرض الذي أشرنا إليه ، وهو تأكيد ما ثبت في النفس من البر حياة وموتا وقدرة وعجزا ، والله أعلم .