وقع في نسخة الصغاني هنا قال أبو عبد الله : يعني سمعت البخاري سليمان بن حرب ، هذا عندنا في الذهب بالورق ، والحنطة بالشعير ، متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ، ولا خير فيه نسيئة . قلت : وهذا موافق . ا هـ منه بلفظه . يقول : لا ربا إلا في النسيئة
وعلى هامش النسخة أن بعد قوله : وهذا موافق بياضا بالأصل ، وبهذا الجواب الذي ذكرنا تعلم أن حديث البراء وزيد لا يحتاج بعد هذا الجواب إلى شيء ; لأنه قد ثبت في " الصحيح " عنهما تصريحهما باختلاف الجنس فارتفع الإشكال ، والروايات يفسر بعضها بعضا ، فإن قيل : هذا لا يكفي في الحكم على الرواية الثابتة في الصحيح بجواز التفاضل بين الدراهم والدراهم أنها خطأ ; إذ لقائل أن يقول لا منافاة بين الروايات المذكورة ، فإن منها ما أطلق فيه الصرف ومنها ما بين أنها دراهم بدراهم ، فيحمل المطلق على المقيد ، جمعا بين الروايتين ، فإن إحداهما بينت ما أبهمته الأخرى ، ويكون حديث حديثا آخر واردا في الجنسين ، وتحريم النساء فيهما ، ولا تنافي في ذلك ولا تعارض . حبيب بن أبي ثابت
فالجواب على تسليم هذا بأمرين : أحدهما : أن إباحة ربا الفضل منسوخة .
والثاني : أن أحاديث تحريم ربا الفضل أرجح ، وأولى بالاعتبار على تقدير عدم النسخ من أحاديث إباحته .
[ ص: 164 ] ومما يدل على النسخ ما ثبت في " الصحيح " أبي المنهال قال : باع شريك لي ورقا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج ، فجاء إلي فأخبرني فقلت : هذا أمر لا يصح ، قال : قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك علي أحد ، فأتيت فسألته فقال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - البراء بن عازب المدينة ونحن نبيع هذا البيع ، فقال : " ما كان يدا بيد فلا بأس به ، وما كان نسيئة فهو ربا " ، وأتيت فإنه أعظم تجارة مني ، فأتيته فسألته فقال مثل ذلك زيد بن أرقم . هذا لفظ عن مسلم في " صحيحه " وفيه التصريح بأن إباحة ربا الفضل المذكورة في حديث البراء بن عازب كانت مقارنة لقدومه - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن أرقم المدينة مهاجرا .
وفي بعض الروايات الصحيحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - صرح بتحريمه في يوم تحريم ربا الفضل خيبر ، وفي بعض الروايات الصحيحة تحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر أيضا ، فقد ثبت في " الصحيح " من حديث - رضي الله عنه - قال : فضالة بن عبيد الأنصاري بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب ، وهي من المغانم تباع ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب وزنا بوزن " هذا لفظ أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مسلم في " صحيحه " ، وفي لفظ له في " صحيحه " أيضا قال : اشتريت يوم فضالة بن عبيد خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها ، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا ، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لا تباع حتى تفصل " ، وفي لفظ له في " صحيحه " أيضا عن فضالة - رضي الله عنه - قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلا وزنا بوزن " . وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث عن ، أبي هريرة وأبي سعيد بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر ، فقدم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " قال : لا والله يا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفعلوا ، ولكن مثلا بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان " هذا لفظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا مسلم في صحيحه ، وفي لفظ لهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أيضا خيبر فجاء بتمر جنيب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " قال : لا والله يا رسول الله ، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا " والأحاديث بمثله كثيرة ، وهي نص صريح في [ ص: 165 ] تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بتحريم ربا الفضل بعد فتح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر ، فقد اتضح لك من هذه الروايات الثابتة في " الصحيح " : أن إباحة ربا الفضل كانت زمن قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة مهاجرا ، وأن الروايات المصرحة بالمنع صرحت به في يوم خيبر وبعده ، فتصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم ربا الفضل بعد قدومه المدينة بنحو ست سنين وأكثر منها ، يدل دلالة لا لبس فيها على النسخ ، وعلى كل حال فالعبرة بالمتأخر ، وقد كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث .
وأيضا فالبراء ، وزيد - رضي الله عنهما - كانا غير بالغين في وقت تحملهما الحديث المذكور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الجماعة من الصحابة الذين رووا عنه تحريم ربا الفضل ; فإنهم بالغون وقت التحمل ، ورواية البالغ وقت التحمل أرجح من رواية من تحمل وهو صبي ; للخلاف فيها دون رواية المتحمل بالغا ، وسن البراء وزيد وقت قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، نحو عشر سنين ; لما ذكره عن ابن عبد البر : أنه روى بإسناده إلى منصور بن سلمة الخزاعي زيد بن حارثة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استصغره يوم أحد ، ، والبراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وأبا سعيد الخدري وسعد بن حبتة ، ، وعن وعبد الله بن عمر أن أول غزوة شهداها يوم الواقدي الخندق .
وممن قال : بأن حديث البراء وزيد منسوخ ، راويه الحميدي . وناهيك به علما واطلاعا . وقول راوي الحديث : إنه منسوخ ، في كونه يكفي في النسخ خلاف معروف عند أهل الأصول ، وأكثر المالكية والشافعية لا يكفي عندهم . فإن قيل : ما قدمتم من كون تحريم ربا الفضل واقعا بعد إباحته ، يدل على النسخ في حديث البراء وزيد ، لعلم التاريخ فيهما ، وأن حديث التحريم هو المتأخر ، ولكن أين لكم معرفة ذلك في حديث أسامة ؟ ومولد أسامة مقارب لمولد البراء وزيد ; لأن سن أسامة وقت وفاته - صلى الله عليه وسلم - عشرون سنة ، وقيل : ثمان عشرة ، وسن البراء وزيد وقت وفاته - صلى الله عليه وسلم - نحو العشرين ، كما قدمنا ما يدل عليه .
فالجواب : أنه يكفي في النسخ معرفة أن إباحة ربا الفضل وقعت قبل تحريمه ، والمتأخر يقضي على المتقدم .
الجواب الثاني : عن حديث أسامة أنه رواية صحابي واحد ، وروايات منع ربا الفضل عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رووها صريحة عنه صلى الله عليه وسلم ، ناطقة بمنع ربا الفضل ، منهم : أبو سعيد ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ، وأبو هريرة وهشام بن عامر ، ، وفضالة بن عبيد وأبو بكرة ، ، وابن عمر وأبو الدرداء ، وبلال ، ، [ ص: 166 ] وعبادة بن الصامت ومعمر بن عبد الله وغيرهم وروايات جل من ذكرنا ثابتة في " الصحيح " كرواية : ، أبي هريرة وأبي سعيد ، ، وفضالة بن عبيد ، وعمر بن الخطاب وأبي بكرة ، ، وعبادة بن الصامت ومعمر بن عبد الله ، وغيرهم . وإذا عرفت ذلك فرواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد من الخطأ من رواية الواحد .
وقد تقرر في الأصول أن كثرة الرواة من المرجحات ، وكذلك كثرة الأدلة كما عقده في " مراقي السعود " ، في مبحث الترجيح ، باعتبار حال المروي بقوله : [ الرجز ]
وكثرة الدليل والرواية مرجح لدى ذوي الدراية
والقول بعدم الترجيح بالكثرة ضعيف ، وقد ذكر سليم الداري أن أومأ إليه ، وقد ذهب إليه بعض الشافعية والحنفية . الشافعي
الجواب الثالث : عن حديث أسامة أنه دل على إباحة ربا الفضل ، وأحاديث الجماعة المذكورة دلت على منعه في الجنس الواحد من المذكورات ، وقد تقرر في الأصول أن النص الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة ; لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام ، وقد قدمناه عن صاحب " المراقي " ، وهو الحق خلافا ، للغزالي وعيسى بن أبان وأبي هاشم ، وجماعة من المتكلمين حيث قالوا : هما سواء .
الجواب الرابع : عن حديث أسامة أنه عام بظاهره في الجنس والجنسين ، وأحاديث الجماعة أخص منه ; لأنها مصرحة بالمنع مع اتحاد الجنس ، وبالجواز مع اختلاف الجنس ، والأخص مقدم على الأعم ; لأنه بيان له ولا يتعارض عام وخاص ، كما تقرر في الأصول . ومن مرجحات أحاديث منع ربا الفضل على حديث أسامة الحفظ ; فإن في رواته ، أبا هريرة وأبا سعيد ، وغيرهما ، ممن هو مشهور بالحفظ ، ومنها غير ذلك .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " ما نصه : واتفق العلماء على صحة حديث أسامة ، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد ، فقيل : منسوخ لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، وقيل : المعنى في قوله : " لا ربا " ، الربا الأغلظ الشديد التحريم ، المتوعد عليه بالعقاب الشديد ، كما تقول العرب : لا عالم في البلد إلا زيدا ، مع أن فيها علماء غيره وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل ، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم . فيقدم عليه حديث أبي سعيد ; لأن دلالته بالمنطوق .
[ ص: 167 ] ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم ، والله أعلم . اهـ منه .
وقوله : النسخ لا يثبت بالاحتمال مردود بما قدمنا من الروايات المصرحة بأن التحريم بعد الإباحة ومعرفة المتأخر كافية في الدلالة على النسخ ، وقد روي عن ابن عباس أنهما رجعا عن القول بإباحة ربا الفضل ، قال وابن عمر البيهقي في " السنن الكبرى " ما نصه : " باب ما يستدل به على رجوع من قال من الصدر الأول لا ربا إلا في النسيئة عن قوله ونزوعه عنه " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ : أنا ، حدثنا أبو الفضل بن إبراهيم أحمد بن سلمة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنا عبد الأعلى ، حدثنا ، داود بن أبي هند ، قال : سألت أبي نضرة ابن عمر عن الصرف فلم يريا به بأسا ، وإني لقاعد عند وابن عباس فسألته عن الصرف ، فقال : ما زاد فهو ربا ، فأنكرت ذلك ، لقولهما ، فقال : لا أحدثكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر طيب ، وكان تمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الدون ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أنى لك هذا ؟ " قال : انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع ; فإن سعر هذا بالسوق كذا ، وسعر هذا بالسوق كذا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربيت ؟ إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة ، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت " ، فقال أبي سعيد الخدري أبو سعيد : فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا ، أم الفضة بالفضة ؟ قال : فأتيت بعد فنهاني ، ولم آت ابن عمر قال : فحدثني ابن عباس أبو الصهباء أنه سأل فكرهه ابن عباس ، رواه عن مسلم في " الصحيح " عن إسحاق بن إبراهيم ، وقال : وكان تمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا اللون .
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا ، حدثنا جدي الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين أبو علي الماسرجسي أبو العباس أحمد بن محمد ، وهو ابن بنت الحسن بن عيسى ، حدثنا جدي الحسن بن عيسى ، أنا أنا ابن المبارك ، يعقوب بن أبي القعقاع ، عن معروف بن سعد ، أبا الجوزاء يقول : كنت أخدم تسع سنين إذ جاء رجل فسأله عن درهم بدرهمين ، فصاح ابن عباس وقال : إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا ، فقال ناس حوله : إن كنا لنعمل هذا بفتياك ، فقال ابن عباس : قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني ابن عباس أبو سعيد ، : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه فأنا أنهاكم عنه وابن عمر ، وفي نسختنا من " سنن أنه سمع البيهقي " في هذا الإسناد ، والظاهر : أن الأصل ابن المبارك أبو المبارك كما يأتي .
أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد ، أنا ، [ ص: 168 ] حدثنا عبد الله بن جعفر بن درستويه ، حدثنا يعقوب بن سفيان عن عبيد الله بن موسى إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن ، عن سعد بن إياس : أن رجلا من عبد الله بن مسعود بني شمخ بن فزارة ، سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته ، فطلق امرأته ; ليتزوج أمها ، قال : لا بأس فتزوجها الرجل ، وكان عبد الله على بيت المال ، وكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ، ويأخذ القليل ، حتى قدم المدينة ، فسأل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : لا يحل لهذا الرجل هذه المرأة ، ولا تصح الفضة إلا وزنا بوزن ; فلما قدم عبد الله انطلق إلى الرجل فلم يجده ، ووجد قومه فقال : إن الذي أفتيت به صاحبكم لا يحل ، فقالوا : إنها قد نثرت له بطنها قال : وإن كان ، وأتى الصيارفة فقال : يا معشر الصيارفة ، إن الذي كنت أبايعكم لا يحل ، لا تحل الفضة بالفضة ، إلا وزنا بوزن . اهـ من البيهقي بلفظه ، وفيه التصريح برجوع ، ابن عمر ، وابن عباس عن القول بإباحة ربا الفضل . وابن مسعود