الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الثالثة : الحيوان البري ثلاثة أقسام : قسم هو صيد إجماعا ، وهو ما كالغزال من كل وحشي حلال الأكل ، فيمنع قتله للمحرم ، وإن قتله فعليه الجزاء ، وقسم ليس بصيد إجماعا ، ولا بأس بقتله ، وقسم اختلف فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      أما القسم الذي لا بأس بقتله ، وليس بصيد إجماعا فهو الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما القسم المختلف فيه : فكالأسد ، والنمر ، والفهد ، والذئب ، وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل خمس فواسق في الحل ، والحرم : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 435 ] وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح " ، ثم عد الخمس المذكورة آنفا ، ولا شك أن الحية أولى بالقتل من العقرب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج مسلم عن ابن مسعود : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر محرما بقتل حية بمنى " ، وعن ابن عمرو سئل : ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم ؟ فقال : " حدثتني إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور ، والفأرة ، والعقرب ، والحدأة ، والغراب ، والحية " رواه مسلم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      والأحاديث في الباب كثيرة ، والجاري على الأصول تقييد الغراب بالأبقع ، وهو الذي فيه بياض ، لما روى مسلم من حديث عائشة في عد الفواسق الخمس المذكورة ، والغراب الأبقع . والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد ، وما أجاب به بعض العلماء من أن روايات الغراب بالإطلاق متفق عليها ، فهي أصح من رواية القيد بالأبقع لا ينهض ، إذ لا تعارض بين مقيد ومطلق ; لأن القيد بيان للمراد من المطلق .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا عبرة بقول عطاء ، ومجاهد بمنع قتل الغراب للمحرم ; لأنه خلاف النص الصريح الصحيح ، وقول عامة أهل العلم ، ولا عبرة أيضا بقول إبراهيم النخعي : إن قتل الفأرة جزاء ، لمخالفته أيضا للنص وقول عامة العلماء ، كما لا عبرة أيضا بقول الحكم ، وحماد : " لا يقتل المحرم العقرب ، والحية " ، ولا شك أن السباع العادية كالأسد ، والنمر ، والفهد أولى بالقتل من الكلب ; لأنها أقوى منه عقرا ، وأشد منه فتكا .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالكلب العقور ، فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة بإسناد حسن ، أنه الأسد ، قاله ابن حجر ، وعن زيد بن أسلم أنه قال : وأي كلب أعقر من الحية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال زفر : المراد به هنا الذئب خاصة ، وقال مالك في الموطأ : كل ما عقر الناس ، وعدا عليهم ، وأخافهم ، مثل الأسد ، والنمر ، والفهد ، والذئب فهو عقور ، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان ، وهو قول الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حنيفة : المراد بالكلب هنا هو الكلب المتعارف خاصة ، ولا يلحق به في هذا الحكم سوى الذئب ، واحتج الجمهور بقوله تعالى : وما علمتم من الجوارح مكلبين [ ص: 436 ] [ 5 \ 4 ] ، فاشتقها من اسم الكلب ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في ولد أبي لهب : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ، فقتله الأسد " ، رواه الحاكم وغيره بإسناد حسن .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه : التحقيق أن السباع العادية ليست من الصيد ، فيجوز قتلها للمحرم وغيره في الحرم وغيره . لما تقرر في الأصول من أن العلة تعمم معلولها ; لأن قوله " العقور " علة لقتل الكلب ، فيعلم منه أن كل حيوان طبعه العقر كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      ولذا لم يختلف العلماء في أن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بكرة المتفق عليه : " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان " ، أن هذه العلة التي هي في ظاهر الحديث الغضب تعمم معلولها فيمتنع الحكم للقاضي بكل مشوش للفكر ، مانع من استيفاء النظر في المسائل كائنا ما كان غضبا أو غيره ، كجوع وعطش مفرطين ، وحزن وسرور مفرطين ، وحقن وحقب مفرطين ونحو ذلك ، وإلى هذا أشار في " مراقي السعود " قوله في مبحث العلة : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم



                                                                                                                                                                                                                                      ويدل لهذا ما أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يقتل المحرم فقال : " الحية ، والعقرب ، والفويسقة ، ويرمي الغراب ولا يقتله ، والكلب العقور ، والحدأة ، والسبع العادي " ، وهذا الحديث حسنه الترمذي .

                                                                                                                                                                                                                                      وضعف ابن كثير رواية يزيد بن أبي زياد ، وقال فيه ابن حجر في " التلخيص " فيه يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف ، وفيه لفظة منكرة وهي قوله : " ويرمي الغراب ولا يقتله " ، وقال النووي في " شرح المهذب " : إن صح هذا الخبر حمل قوله هذا على أنه لا يتأكد ندب قتل الغراب كتأكيد قتل الحية وغيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه : تضعيف هذا الحديث ، ومنع الاحتجاج متعقب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أنه على شرط مسلم ; لأن يزيد بن أبي زياد من رجال صحيحه وأخرج له البخاري تعليقا ، ومنع الاحتجاج بحديث على شرط مسلم لا يخلو من نظر ، وقد ذكر مسلم في مقدمة " صحيحه " ، أن من أخرج حديثهم في غير الشواهد والمتابعات أقل أحوالهم قبول الرواية فيزيد بن أبي زياد عند مسلم مقبول الرواية ، وإليه الإشارة بقول [ ص: 437 ] العراقي في ألفيته : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      فاحتاج أن ينزل في الإسناد     إلى يزيد بن أبي زياد



                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أنا لو فرضنا ضعف هذا الحديث ، فإنه يقويه ما ثبت من الأحاديث المتفق عليها من جواز قتل الكلب العقور في الإحرام وفي الحرم ، والسبع العادي إما أن يدخل في المراد به ، أو يلحق به إلحاقا صحيحا لا مراء فيه ، وما ذكره الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - من أن الكلب العقور يلحق به الذئب فقط ; لأنه أشبه به من غيره لا يظهر ; لأنه لا شك في أن فتك الأسد والنمر مثلا ، أشد من عقر الكلب والذئب ، وليس من الواضح أن يباح قتل ضعيف الضرر ، ويمنع قتل قويه ; لأن فيه علة الحكم وزيادة ، وهذا النوع من الإلحاق من دلالة اللفظ عند أكثر أهل الأصول ، لا من القياس ، خلافا للشافعي وقوم ، كما قدمنا في سورة النساء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : قلت : العجب من أبي حنيفة - رحمه الله - يحمل التراب على البر بعلة الكيل ، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر ، كما فعل مالك ، والشافعي ، رحمهما الله .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن الصيد عند الشافعي هو مأكول اللحم فقط ، فلا شيء عنده في قتل ما لم يؤكل لحمه ، والصغار منه والكبار عنده سواء ، إلا المتولد من بين مأكول اللحم وغير مأكوله ، فلا يجوز اصطياده عنده ، وإن كان يحرم أكله ، كالسمع وهو المتولد من بين الذئب والضبع ، وقال : ليس في الرخمة ، والخنافس ، والقردان ، والحلم ، وما لا يؤكل لحمه شيء ; لأن هذا ليس من الصيد ، لقوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما [ 5 \ 96 ] ، فدل أن الصيد الذي حرم عليهم ، هو ما كان حلالا لهم قبل الإحرام ، وهذا هو مذهب الإمام أحمد .

                                                                                                                                                                                                                                      أما مالك - رحمه الله - فذهب إلى أن كل ما لا يعدو من السباع ، كالهر ، والثعلب ، والضبع وما أشبهها ، لا يجوز قتله . فإن قتله فداه ، قال : وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم ، فإن قتلها فداها ، وهي مثل فراخ الغربان .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه : أما الضبع فليست مثل ما ذكر معها لورود النص فيها ، دون غيرها ; بأنها صيد يلزم فيه الجزاء ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يجز مالك للمحرم قتل الزنبور ، وكذلك النمل ، والذباب ، والبراغيث ، وقال : [ ص: 438 ] إن قتلها محرم يطعم شيئا ، وثبت عن عمر - رضي الله عنه - إباحة قتل الزنبور ، وبعض العلماء شبهه بالعقرب ، وبعضهم يقول : إذا ابتدأ بالأذى جاز قتله ، وإلا فلا ، وأقيسها ما ثبت عن عمر بن الخطاب ; لأنه مما طبيعته أن يؤذي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا عن الشافعي ، وأحمد ، وغيرهم أنه لا شيء في غير الصيد المأكول ، وهو ظاهر القرآن العظيم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية