الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 25 ] وقال ابن حجر في " فتح الباري " في الكلام على حديث معاوية هذا ما نصه : وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - نظير ما وقع في حديث معاوية ، ذكره محمد بن إسحاق في الكتاب الكبير ، فذكر قصة سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر ، وفيها : فقال أبو بكر : وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله ، واستقاموا على أمره . وقد جاءت الأحاديث التي أشرت إليها على ثلاثة أنحاء : الأول : وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به . كما في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال : " الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثا : ما حكموا فعدلوا " ، الحديث ، وفيه : " فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله " وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم . فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه : " إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا ، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب " . ورجاله ثقات إلا أنه من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عم أبيه عبد الله بن مسعود ولم يدركه ، هذه رواية صالح بن كيسان ، عن عبيد الله ، وخالفه حبيب بن أبي ثابت ، فرواه عن القاسم بن محمد بن عبد الرحمن ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبي مسعود الأنصاري ولفظه : " لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته " الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي سماع عبيد الله من أبي مسعود نظر مبني على الخلاف في سنة وفاته ، وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار ، أخرجه الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء ، ولفظه : قال لقريش : " أنتم أولى بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة " وليس في هذا تصريح بخروج الأمر عنهم ، وإن كان فيه إشعار به .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : الإذن في القيام عليهم وقتالهم ، والإيذان بخروج الأمر عنهم كما أخرجه الطيالسي ، والطبراني من حديث ثوبان رفعه : " استقيموا لقريش ما استقاموا لكم ، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم ، فأبيدوا خضراءهم ، فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء " . ورجاله ثقات ، إلا أن فيه انقطاعا ; لأن رواية سالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان ، وله شاهد في الطبراني من حديث النعمان بن بشير بمعناه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 26 ] وأخرج أحمد من حديث ذي مخبر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء - وهو ابن أخي النجاشي - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم ، وصيره في قريش ، وسيعود لهم " وسنده جيد ، وهو شاهد قوي لحديث القحطاني ; فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان ، وبه يقوى أن مفهوم حديث معاوية : " ما أقاموا الدين " أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن قول عبد الله بن عمرو بن العاص ، الذي أنكره عليه معاوية في الحديث المذكور ، إنه سيكون ملك من قحطان إذا كان عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - يعني به القحطاني الذي صحت الرواية بملكه ، فلا وجه لإنكاره لثبوت أمره في الصحيح ، من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه " . أخرجه البخاري في " كتاب الفتن " في " باب تغير الزمان حتى يعبدوا الأوثان " ، وفي " كتاب المناقب " في " باب ذكر قحطان " ، وأخرجه مسلم في " كتاب الفتن وأشراط الساعة " في " باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل ، فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء " وهذا القحطاني لم يعرف اسمه عند الأكثرين . وقال بعض العلماء : اسمه جهجاه ، وقال بعضهم : اسمه شعيب بن صالح ، وقال ابن حجر في الكلام على حديث القحطاني هذا ما نصه : وقد تقدم في الحج أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج : وتقدم الجمع بينه وبين حديث : " لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت ، وأن الكعبة يخربها ذو السويقتين من الحبشة " فينتظم من ذلك أن الحبشة إذا خربت البيت خرج عليهم القحطاني فأهلكهم ، وأن المؤمنين قبل ذلك يحجون في زمن عيسى بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم ، وأن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين تبدأ بمن بقي بعد عيسى ويتأخر أهل اليمن بعدها .

                                                                                                                                                                                                                                      ويمكن أن يكون هذا مما يفسر به قوله : " الإيمان يمان " أي : يتأخر الإيمان بها بعد فقده من جميع الأرض . وقد أخرج مسلم حديث القحطاني عقب حديث تخريب الكعبة ذو السويقتين فلعله رمز إلى هذا . انتهى منه بلفظه والله أعلم ، ونسبة العلم إليه أسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : من شروط الإمام الأعظم : كونه ذكرا ولا خلاف في ذلك بين العلماء ، [ ص: 27 ] ويدل له ما ثبت في " صحيح البخاري " وغيره من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : من شروط الإمام الأعظم كونه حرا . فلا يجوز أن يكون عبدا ، ولا خلاف في هذا بين العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : ورد في الصحيح ما يدل على جواز إمامة العبد ، فقد أخرج البخاري في [ صحيحه ] من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسمعوا وأطيعوا ، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولمسلم من حديث أم الحصين : اسمعوا وأطيعوا ، ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ولمسلم أيضا من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أوصاني خليلي أن أطيع وأسمع ، وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف . فالجواب من أوجه : الأول : أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود ، فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة ، وإن كان لا يتصور شرعا أن يلي ذلك ، ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي ، ويشبه هذا الوجه قوله تعالى : ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) [ 43 \ 81 ] على أحد التفسيرات .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مؤمرا من جهة الإمام الأعظم على بعض البلاد وهو أظهرها ، فليس هو الإمام الأعظم .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث : أن يكون أطلق عليه اسم العبد ; نظرا لاتصافه بذلك سابقا مع أنه وقت التولية حر ، ونظيره إطلاق اليتم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقا في قوله تعالى : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) الآية [ 4 \ 2 ] ، وهذا كله فيما يكون بطريق الاختيار . أما لو تغلب عبد حقيقة بالقوة فإن طاعته تجب ; إخمادا للفتنة ، وصونا للدماء ما لم يأمر بمعصية كما تقدمت الإشارة إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالزبيبة في هذا الحديث واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جف ، والمقصود من التشبيه : التحقير وتقبيح الصورة ; لأن السمع والطاعة إذا وجبا لمن كان كذلك دل ذلك على الوجوب على كل حال إلا في المعصية كما [ ص: 28 ] يأتي ، ويشبه قوله صلى الله عليه وسلم : " كأنه زبيبة " قول الشاعر يهجو شخصا أسود :

                                                                                                                                                                                                                                      دنس الثياب كأن فروة رأسه غرست فأنبت جانباها فلفلا



                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : من شروطه أن يكون بالغا ، فلا تجوز إمامة الصبي إجماعا لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : أن يكون عاقلا ، فلا تجوز إمامة المجنون ، ولا المعتوه ، وهذا لا نزاع فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      السادس : أن يكون عدلا ، فلا تجوز إمامة فاسق ، واستدل عليه بعض العلماء بقوله تعالى : ( قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) [ 2 \ 124 ] ويدخل في اشتراط العدالة اشتراط الإسلام ; لأن العدل لا يكون غير مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      السابع : أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين ، مجتهدا يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث .

                                                                                                                                                                                                                                      الثامن : أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى ونحو ذلك ، ويدل لهذين الشرطين الأخيرين ، أعني : العلم وسلامة الجسم ؛ قوله تعالى في طالوت : ( إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) [ 2 \ 247 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      التاسع : أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب ، وتدبير الجيوش ، وسد الثغور ، وحماية بيضة المسلمين ، وردع الأمة ، والانتقام من الظالم ، والأخذ للمظلوم . كما قال لقيط الإيادي : [ البسيط ]

                                                                                                                                                                                                                                      وقلدوا أمركم لله دركم     رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا



                                                                                                                                                                                                                                      العاشر : أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ، ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأعضاء ، ويدل ذلك إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على أن الإمام لا بد أن يكون كذلك . قاله القرطبي .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية