الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقد صرح تعالى بشمول حكمته لجميع المؤمنين في قوله : لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية ، وأشار إلى هذا أيضا في الأحزاب بقوله : خالصة لك من دون المؤمنين [ 33 \ 50 ] ; لأن الخطاب الخاص به - صلى الله عليه وسلم - في قوله : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي الآية ، لو كان حكمه خاصا به - صلى الله عليه وسلم - لأغنى ذلك عن قوله : خالصة لك من دون المؤمنين ، كما هو ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ردت عائشة - رضي الله عنها - على من زعم أن تخيير الزوجة طلاق ، بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير نساءه فاخترنه ، فلم يعده طلاقا ; مع أن الخطاب في ذلك خاص به - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الآيتين [ 33 \ 28 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخذ مالك - رحمه الله - بينونة الزوجة بالردة من قوله : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] ، وهو خطاب خاص به - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 379 ] وحاصل تحرير المقام في مسألة " شرع من قبلنا " ، أن لها واسطة وطرفين ، طرف يكون فيه شرعا لنا إجماعا ، وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ، ثم بين لنا في شرعنا أنه شرع لنا ، كالقصاص ، فإنه ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ، في قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية ، وبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا في قوله : كتب عليكم القصاص في القتلى ، وطرف يكون فيه غير شرع لنا إجماعا وهو أمران :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : ما لم يثبت بشرعنا أصلا أنه كان شرعا لمن قبلنا ، كالمتلقى من الإسرائيليات ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن تصديقهم ، وتكذيبهم فيها ، وما نهانا - صلى الله عليه وسلم - عن تصديقه لا يكون مشروعا لنا إجماعا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : ما ثبت في شرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ، وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا ، كالآصار ، والأغلال التي كانت على من قبلنا ; لأن الله وضعها عنا ، كما قال تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ 7 \ 157 ] ، وقد ثبت في صحيح مسلم : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ 2 \ 286 ] ، أن الله قال : نعم قد فعلت " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن تلك الآصار التي وضعها الله عنا ، على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم - ما وقع لعبدة العجل ، حيث لم تقبل توبتهم إلا بتقديم أنفسهم للقتل ، كما قال تعالى : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم [ 2 \ 54 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والواسطة هي محل الخلاف بين العلماء ، وهي ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ، ولم يبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا ، ولا غير مشروع لنا ، وهو الذي قدمنا أن التحقيق كونه شرعا لنا ، وهو مذهب الجمهور ، وقد رأيت أدلتهم عليه ، وبه تعلم أن آية : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية ، يلزمنا الأخذ بما تضمنته من الأحكام .

                                                                                                                                                                                                                                      مع أن القرآن صرح بذلك في الجملة في قوله : كتب عليكم القصاص في القتلى ، وقوله : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا [ 17 \ 33 ] ، وفي حديث ابن مسعود ، المتفق عليه المتقدم ، التصريح بأن ما فيها من قتل النفس بالنفس مشروع لنا ، [ ص: 380 ] حيث قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس " ، الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى هذا أشار البخاري في صحيحه ، حيث قال : باب قول الله تعالى : أن النفس بالنفس ، إلى قوله : فأولئك هم الظالمون ، ثم ذكر حديث ابن مسعود المتقدم ، وقال ابن حجر : والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث ، ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب ، فالحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام ، فهو أصل في القصاص في قتل العمد ; ويدل لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كتاب الله القصاص " ، أخرجه الشيخان من حديث أنس ، بناء على أن المراد " بكتاب الله " قوله تعالى : والسن بالسن ، في هذه الآية التي نحن بصددها ، وعلى بقية الأقوال فلا دليل في الحديث ، ولم يزل العلماء يأخذون الأحكام من قصص الأمم الماضية ، كما أوضحنا دليله .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن ذلك قول المالكية وغيرهم : إن القرينة الجازمة ربما قامت مقام البينة ، مستدلين على ذلك بجعل شاهد يوسف شق قميصه من دبر قرينة على صدقه ، وكذب المرأة ، في قوله تعالى : وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم الآية [ 12 \ 26 ، 27 ، 28 ] ، فذكره تعالى لهذا مقررا له يدل على جواز العمل به ، ومن هنا أوجب مالك حد الخمر على من استنكه فشم في فيه ريح الخمر ، لأن ريحها في فيه قرينة على شربه إياها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز العلماء للرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها فتزفها إليه ولائد ، لا يثبت بقولهن أمر أن يجامعها من غير بينة على عينها أنها فلانة بنت فلان التي وقع عليها العقد اعتمادا على القرينة ، وتنزيلا لها منزلة البينة .

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك الضيف ينزل بساحة قوم فيأتيه الصبي ، أو الوليدة بطعام ، فيباح له أكله من غير بينة تشهد على إذن أهل الطعام له في الأكل ، اعتمادا على القرينة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخذ المالكية وغيرهم إبطال القرينة بقرينة أقوى منها ، من أن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب ، جعلوا على قميصه دم سخلة ، ليكون الدم على قميصه قرينة على صدقهم في أنه أكله الذئب ، فأبطلها يعقوب بقرينة أقوى منها ، وهي عدم شق [ ص: 381 ] القميص ، فقال : سبحان الله ! متى كان الذئب حليما كيسا ، يقتل يوسف ، ولا يشق قميصه ؟ كما بينه تعالى بقوله : وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [ 12 \ 18 ] ، وأخذ المالكية ضمان الغرم من قوله تعالى ، في قصة يوسف وإخوته : ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم [ 12 \ 72 ] ، وأخذ بعض الشافعية ضمان الوجه المعروف بالكفالة ، من قوله تعالى في قصة يعقوب وبنيه : لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم [ 12 \ 66 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخذ المالكية تلوم القاضي للخصوم ثلاثة أيام بعد انقضاء الآجال من قوله تعالى في قصة صالح : فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام [ 11 \ 65 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخذوا وجوب الإعذار إلى الخصم الذي توجه إليه الحكم بـ " أبقيت لك حجة ؟ " ، ونحو ذلك من قوله تعالى في قصة سليمان مع الهدهد : لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين [ 27 \ 21 ] ، وأخذ الحنابلة جواز طول مدة الإجارة من قوله تعالى في قصة موسى ، وصهره شعيب أو غيره : إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك الآية [ 28 \ 27 ] ، وأمثال هذا كثيرة جدا ، وقوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [ 5 \ 48 ] ، لا يخالف ما ذكرنا ، لأن المراد به أن بعض الشرائع تنسخ فيها أحكام كانت مشروعة قبل ذلك ، ويجدد فيها تشريع أحكام لم تكن مشروعة قبل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا الاعتبار يكون لكل شرعة ومنهاج من غير مخالفة لما ذكرنا ، وهذا ظاهر ، فبهذا يتضح لك الجواب عن السؤال الأول ، وتعلم أن ما تضمنته آية وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية ، مشروع لهذه الأمة ، وأن الرجل يقتل بالمرأة كالعكس على التحقيق الذي لا شك فيه ، وكأن القائل بعدم القصاص بينهما يتشبث بمفهوم قوله : والأنثى بالأنثى [ 2 \ 178 ] ، وسترى تحقيق المقام فيه - إن شاء الله - قريبا .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب عن السؤال الثاني - الذي هو لم لا يخصص عموم النفس بالنفس بالتفصيل المذكور في قوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ؟ هو [ ص: 382 ] ما تقرر في الأصول من أن مفهوم المخالفة إذا كان محتملا لمعنى آخر ، غير مخالفته لحكم المنطوق ، يمنعه ذلك من الاعتبار .

                                                                                                                                                                                                                                      قال صاحب " جمع الجوامع " في الكلام على مفهوم المخالفة : وشرطه ألا يكون المسكوت ترك لخوف ونحوه ، إلى أن قال : أو غيره مما يقتضي التخصيص بالذكر ، فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن قوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، يدل على قتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، ولم يتعرض لقتل الأنثى بالذكر ، أو العبد بالحر ، ولا لعكسه بالمنطوق .

                                                                                                                                                                                                                                      ومفهوم مخالفته هنا غير معتبر ; لأن سبب نزول الآية ، أن قبيلتين من العرب اقتتلتا ، فقالت إحداهما : نقتل بعبدنا فلان بن فلان ، وبأمتنا فلانة بنت فلان ، تطاولا منهم عليهم ، وزعما أن العبد منهم بمنزلة الحر من أولئك ، وأن أنثاهم أيضا بمنزلة الرجل من الآخرين ، تطاولا عليهم ، وإظهارا لشرفهم عليهم ، ذكر معنى هذا القرطبي ، عن الشعبي ، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن أبي حاتم نحوه عن سعيد بن جبير ، نقله عنه ابن كثير في تفسيره ، والسيوطي في أسباب النزول ، وذكر ابن كثير أنها نزلت في قريظة والنضير ، لأنهم كان بينهم قتال ، وبنو النضير يتطاولون على بني قريظة .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجميع متفق على أن سبب نزولها أن قوما يتطاولون على قوم ، ويقولون : إن العبد منا لا يساويه العبد منكم ، وإنما يساويه الحر منكم ، والمرأة منا لا تساويها المرأة منكم ، وإنما يساويها الرجل منكم ، فنزل القرآن مبينا أنهم سواء ، وليس المتطاول منهم على صاحبه بأشرف منه ، ولهذا لم يعتبر مفهوم المخالفة هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية