المسألة الخامسة : ؟ وهذه المسألة من صعاب المسائل لإجماع المسلمين على صحة هل يرفع التيمم الحدث أو لا ، وإجماعهم على أن الحدث مبطل للصلاة ، فإن قلنا : لم يرتفع حدثه ، فكيف صحت صلاته ، وهو محدث ؟ وإن قلنا : صحت صلاته ، فكيف نقول : لم يرتفع حدثه ؟ . الصلاة بالتيمم عند فقد الماء ، أو العجز عن استعماله
اعلم أولا أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة إلى ثلاثة مذاهب :
الأول : أن التيمم لا يرفع الحدث .
الثاني : أنه يرفعه رفعا كليا .
الثالث : أنه يرفعه رفعا مؤقتا .
حجة القول الأول أن التيمم لا يرفع الحدث ما ثبت في صحيح من حديث البخاري عمران المتقدم : " الحديث . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس فرأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم ، فقال : " ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم ؟ " قال : أصابتني جنابة ولا ماء . قال : " عليك بالصعيد فإنه يكفيك " . إلى أن قال : وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء ، قال : " اذهب فأفرغه عليك ولمسلم في هذا الحديث " وغسلنا صاحبنا " ، يعني الجنب المذكور . وهذا نص صحيح في أن تيممه الأول لم يرفع جنابته .
ومن الأدلة على أنه لا يرفع الحدث ما رواه أبو داود ، وأحمد ، ، والدارقطني ، وابن حبان والحاكم موصولا ، ورواه تعليقا عن البخاري رضي الله عنه : عمرو بن العاص عمرو : إني سمعت الله يقول : ولا تقتلوا أنفسكم الآية [ 4 \ 29 ] ، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه ، قال أنه تيمم عن الجنابة من شدة البرد ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " صليت بأصحابك [ ص: 365 ] وأنت جنب " ، فقال ابن حجر في " التلخيص " في الكلام على حديث عمرو هذا : واختلف فيه على عبد الرحمن بن جبير .
فقيل عنه عن أبي قيس عن عمرو ، وقيل عنه عن عمرو بلا واسطة ، لكن الرواية التي فيها أبو قيس ، ليس فيها ذكر التيمم ، بل فيها أنه غسل مغابنه فقط .
وقال أبو داود : روى هذه القصة عن الأوزاعي ، وفيه : " فتيمم " ، ورجح حسان بن عطية الحاكم إحدى الروايتين على الأخرى .
وقال البيهقي : يحتمل أن يكون فعل ما في الروايتين جميعا ، فيكون قد غسل ما أمكن ، وتيمم عن الباقي ، وله شاهد من حديث ، وحديث ابن عباس أبي أمامة ، عند ، انتهى من التلخيص الطبراني لابن حجر .
قال مقيده - عفا الله عنه - : ما أشار إليه البيهقي من الجمع بين الروايتين متعين ; لأن الجمع واجب إذا أمكن ، كما تقرر في الأصول ، وعلوم الحديث .
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - : " " ، فإنه أثبت بقاء جنابته مع التيمم . صليت بأصحابك وأنت جنب
ومن الأدلة على أن التيمم لا يرفع الحدث حديث أبي ذر عند أحمد ، وأصحاب السنن الأربع ، وصححه الترمذي ، وأبو حاتم من حديث أبي ذر ، وابن القطان من حديث عند أبي هريرة البزار ، ، قاله والطبراني ابن حجر في التلخيص .
وذكر في " الفتح " أنه صححه ، ابن حبان من حديث والدارقطني أبي ذر : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " " الحديث . إن الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته
قال ابن حجر في التلخيص : بعد أن ذكر هذا الحديث ، عن أصحاب السنن من رواية عن خالد الحذاء أبي قلابة ، عن عمرو بن بجدان ، عن أبي ذر : واختلف فيه على أبي قلابة ، فقيل هكذا .
وقيل عنه عن رجل من بني عامر ، وهذه رواية أيوب عنه ، وليس فيها مخالفة لرواية خالد ، وقيل عن أيوب عنه ، عن أبي المهلب ، عن أبي ذر ، وقيل عنه بإسقاط [ ص: 366 ] الواسطة ، وقيل في الواسطة محجن ، أو ابن محجن ، أو رجاء بن عامر ، أو رجل من بني عامر ، وكلها عند ، والاختلاف فيه كله على الدارقطني أيوب ، ورواه ، ابن حبان والحاكم من طريق كرواية خالد الحذاء أبي داود ، وصححه أيضا أبو حاتم ، ومدار طريق خالد على عمرو بن بجدان ، وقد وثقه العجلي ، وغفل فقال : إنه مجهول ، هكذا قاله ابن القطان ابن حجر في التلخيص " .
وقال في " التقريب " في ابن بجدان المذكور : لا يعرف حاله ، تفرد عنه ، وفي الباب عن أبو قلابة رواه أبي هريرة البزار ، قال : حدثنا مقدم بن محمد ، ثنا عمي القاسم بن يحيى ، ثنا ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين رفعه : " أبي هريرة " . الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليتق الله . وليمسه بشرته ، فإن ذلك خير
وقال : لا نعلمه عن إلا من هذا الوجه ، ورواه أبي هريرة في الأوسط من هذا الوجه مطولا ، أخرجه في ترجمة الطبراني أحمد بن محمد بن صدقة ، وساق فيه قصة أبي ذر ، وقال : لم يروه إلا هشام ، عن ، ولا عن ابن سيرين هشام إلا القاسم ، تفرد به مقدم ، وصححه ، لكن قال ابن القطان في العلل : إن إرساله أصح ، انتهى من التلخيص بلفظه ، وقد رأيت تصحيح هذا الحديث الدارقطني ، للترمذي وأبي حاتم ، وابن القطان ، . وابن حبان
ومحل الشاهد منه قوله : " " ; لأن الجنابة لو كان التيمم رفعها ، لما احتيج إلى إمساس الماء البشرة . فإن وجد الماء فليمسه بشرته
واحتج القائلون بأن التيمم يرفع الحدث : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بأنه طهور في قوله في الحديث المتفق عليه : " " ، وبأن في الحديث المار آنفا : " وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ، وبأن الله تعالى قال : التيمم وضوء المسلم فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية ، وبالإجماع على أن الصلاة تصح به كما تصح بالماء به ، ولا يخفى ما بين القولين المتقدمين من التناقض .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر من الأدلة تعين القول الثالث ; لأن الأدلة تنتظم ولا يكون بينهما تناقض والجمع واجب متى أمكن ، قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]
[ ص: 367 ] والجمع واجب متى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا
والقول الثالث المذكور هو : أن التيمم يرفع الحدث رفعا مؤقتا لا كليا ، وهذا لا مانع منه عقلا ولا شرعا ، وقد دلت عليه الأدلة ; لأن صحة الصلاة به المجمع عليها يلزمها أن المصلي غير محدث ، ولا جنب لزوما شرعيا لا شك فيه .
ووجوب الاغتسال أو الوضوء بعد ذلك عند إمكانه المجمع عليه أيضا يلزمه لزوما شرعيا لا شك فيه ، وأن الحدث مطلقا لم يرتفع بالكلية ، فيتعين الارتفاع المؤقت . هذا هو الظاهر ، ولكنه يشكل عليه ما تقدم في حديث ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له : " عمرو بن العاص " ، وقد تقرر عند علماء العربية أن وقت عامل الحال هو بعينه وقت الحال ، فالحال وعاملها إذا مقترنان في الزمان ، فقولك : جاء زيد ضاحكا مثلا ، لا شك في أن وقت المجيء فيه هو بعينه وقت الضحك ، وعليه فوقت صلاته ، هو بعينه وقت كونه جنبا ; لأن الحال هي كونه جنبا وعاملها قوله " صليت " ، فيلزم أن الصلاة والجنابة متحد ، ولا يقدح فيما ذكرنا أن الحال المقدرة لا تقارن عاملها في الزمان ، كقوله تعالى : صليت بأصحابك وأنت جنب سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 73 ] ; لأن الخلود متأخر عن زمن الدخول أي مقدرين الخلود فيها ; لأن الحال في الحديث المذكور ليست من هذا النوع .
فالمقارنة بينها وبين عاملها في الزمن لا شك فيها ، وإذا كانت الجنابة حاصلة له في نفس وقت الصلاة ، كما هو مقتضى هذا الحديث ، فالرفع المؤقت المذكور لا يستقيم ، ويمكن الجواب عن هذا من وجهين :
الأول : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له : " وأنت جنب " ، قبل أن يعلم عذره بخوفه الموت إن اغتسل .
والمتيمم من غير عذر مبيح جنب قطعا ، وبعد أن علم عذره المبيح للتيمم الذي هو خوف الموت أقره وضحك ، ولم يأمره بالإعادة ، فدل على أنه صلى بأصحابه وهو غير جنب ، وهذا ظاهر الوجه .
الثاني : أنه أطلق عليه اسم الجنابة نظرا إلى أنها لم ترتفع بالكلية ، ولو كان في وقت صلاته غير جنب ، كإطلاق اسم الخمر على العصير في وقت هو فيه ليس بخمر في [ ص: 368 ] قوله : إني أراني أعصر خمرا [ 12 \ 36 ] ، نظرا إلى مآله في ثاني حال ، والعلم عند الله تعالى .
ومن المسائل التي تبنى على الاختلاف في التيمم ، هل يرفع الحدث أو لا ؟ جواز ، وصلت بالتيمم للعذر الذي يبيحه ، فعلى أنه يرفع الحدث يجوز وطؤها قبل الاغتسال ، والعكس بالعكس . وطء الحائض إذا طهرت
وكذلك إذا ، فعلى أن التيمم يرفع الحدث يجوز المسح عليهما في الوضوء بعد ذلك ، والعكس بالعكس . تيمم ولبس الخفين
وكذلك ما ذهب إليه من أن أبو سلمة بن عبد الرحمن لا يلزمه الغسل ، فالظاهر أنه بناه على رفع الحدث بالتيمم ، لكن هذا القول ترده الأحاديث المتقدمة ، وإجماع المسلمين قبله ، وبعده على خلافه . الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء