ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين في قلوبهم مرض ، وهم اليهود بأنهم يخشون أن تدور عليهم الدوائر ، أي دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم ، كما قال الشاعر : [ الوافر ] المنافقون ، يعتذرون عن موالاة الكفار من
إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا
يعنون إما بقحط فلا يميروننا ، ولا يتفضلوا علينا ، وإما بظفر الكفار بالمسلمين ، فلا يدوم الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، زعما منهم أنهم عند تقلب الدهر بنحو ما ذكر ، يكون لهم أصدقاء كانوا محافظين على صداقتهم ; فينالون منهم ما يؤمل الصديق من صديقه ، وأن المسلمين يتعجبون من كذبهم في إقسامهم بالله جهد أيمانهم ، إنهم لمع المسلمين ، وبين في هذه الآية : أن تلك الدوائر التي حافظوا من أجلها على صداقة [ ص: 414 ] اليهود ، أنها لا تدور إلا على اليهود ، والكفار ، ولا تدور على المسلمين ، بقوله : فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده الآية ، وعسى من الله نافذة ; لأنه الكريم العظيم الذي لا يطمع إلا فيما يعطي .
والفتح المذكور قيل : هو فتح المسلمين لبلاد المشركين ، وقيل : الفتح الحكم ، كقوله : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين [ 7 \ 89 ] ، وعليه فهو حكم الله بقتل مقاتلة بني قريظة ، وسبي ذراريهم ، وإجلاء بني النضير ، وقيل : هو فتح مكة ، وهو راجع إلى الأول .
وبين تعالى في موضع آخر أن سبب حلفهم بالكذب للمسلمين ، أنهم منهم ، إنما هو الفرق أي الخوف ، وأنهم لو وجدوا محلا يستترون فيه عن المسلمين لسارعوا إليه ؛ لشدة بغضهم للمسلمين ، وهو قوله : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون [ 9 \ 56 ، 57 ] ، ففي هذه الآية بيان سبب أيمان المنافقين ، ونظيرها قوله : اتخذوا أيمانهم جنة [ 58 \ 16 ] .
وبين تعالى في موضع آخر ، أنهم يحلفون تلك الأيمان ليرضى عنهم المؤمنون ، وأنهم إن رضوا عنهم ، فإن الله لا يرضى عنهم ، وهو قوله : يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين [ 9 \ 96 ] .
وبين في موضع آخر : أنهم يريدون بأيمانهم إرضاء المؤمنين ، وإن الله ورسوله أحق بالإرضاء ، وهو قوله : يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين [ 9 \ 62 ] .
وبين في موضع آخر أنهم يحلفون لهم ليرضوا عنهم ، بسبب أن لهم عذرا صحيحا ، وأن الله أمرهم بالإعراض عنهم ، لا لأن لهم عذرا صحيحا ، بل مع الإعلام بأنهم رجس ، ومأواهم النار بسبب ما كسبوا من النفاق ، وهو قوله : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون [ 9 \ 95 ] .
وبين في موضع آخر : أن أيمانهم الكاذبة سبب لإهلاكهم أنفسهم ، وهو قوله : [ ص: 415 ] وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم الآية [ 9 \ 42 ] .
وهذه الأسباب لحلف المنافقين التي ذكرت في هذه الآيات راجعة جميعا إلى السبب الأول ، الذي هو الخوف ; لأن خوفهم من المؤمنين ، هو سبب رغبتهم في إرضائهم ، وإعراضهم عنهم بأن لا يؤذوهم ، ولذا حلفوا لهم ، ليرضوهم ، وليعرضوا عنهم ، خوفا من أذاهم ، كما هو ظاهر .
تنبيه
قوله في هذه ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا [ 5 \ 53 ] فيه ثلاث قراءات سبعيات . الآية الكريمة :
الأولى : يقول بلا واو مع الرفع ، وبها قرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر .
الثانية : ويقول بإثبات الواو مع رفع الفعل أيضا ، وبها قرأ عاصم ، وحمزة ، . والكسائي
الثالثة : بإثبات الواو ، ونصب " يقول " عطفا على ( أن يأتي بالفتح ) وبها قرأ أبو عمرو .