ظاهر عموم هذه الآية الكريمة يشمل إباحة بحج أو عمرة ، وهو كذلك ، كما بينه تخصيصه تعالى تحريم الصيد على المحرم بصيد البر في قوله : صيد البحر للمحرم وحرم عليكم صيد البر ما دمتم [ 5 \ 96 ] ، فإنه يفهم منه أن صيد البحر لا يحرم على المحرم ، كما هو ظاهر .
مسائل تتعلق بالاصطياد
في الإحرام أو في الحرم
المسألة الأولى : أجمع العلماء على منع بحج أو عمرة . صيد البر للمحرم
وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشي كالظبي ، والغزال ونحو ذلك ، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه ، لما ثبت في الصحيحين من أبي قتادة - رضي الله عنه - أنه كان مع قوم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال وهم محرمون ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرم أمامهم ، فأبصروا حمارا وحشيا وأبو قتادة مشغول يخصف نعله فلم يؤذنوه ، وأحبوا لو أنه أبصره فأبصره فأسرج فرسه ; ثم ركب ونسي سوطه ورمحه فقال لهم : ناولوني السوط والرمح ، فقالوا : والله لا نعينك عليه ، فغضب فنزل [ ص: 430 ] فأخذهما فركب فشد على الحمار فعقره ثم جاء به وقد مات ، فوقعوا فيه يأكلونه ، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم ، فأدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فقررهم على أكله ، وناوله عضد الحمار الوحشي ، فأكل منها - صلى الله عليه وسلم - ، أبو قتادة ولمسلم : " هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء " ، قالوا : لا ، قال : " فكلوه " . حديث
: " وللبخاري " ، وقد أجمع جميع العلماء على أن هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها " ، أو " أشار إليها " قالوا : لا ، قال : " فكلوا ما بقي من لحمها لا يجوز أكله للمحرم الذي صاده ، ولا لمحرم غيره ، ولا لحلال غير محرم ; لأنه ميتة . ما صاده محرم
واختلف العلماء في على ثلاثة أقوال ، قيل : لا يجوز له الأكل مطلقا ، وقيل : يجوز مطلقا ، وقيل : بالتفصيل بين ما صاده لأجله ، وما صاده لا لأجله فيمنع الأول دون الثاني . أكل المحرم مما صاده حلال
واحتج أهل القول الأول بحديث الصعب بن جثامة - رضي الله عنه : بالأبواء أو بودان ، فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال : " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرام " ، متفق عليه ، أنه أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارا وحشيا وهو ولأحمد ومسلم " " . لحم حمار وحشي
واحتجوا أيضا بحديث - رضي الله عنه : أن زيد بن أرقم " أخرجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدي له عضو من لحم صيد فرده ، وقال : " إنا لا نأكله إنا حرم أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، . والنسائي
واحتجوا أيضا بعموم قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ، ويروى هذا القول عن علي ، ، وابن عباس ، وابن عمر والليث ، ، والثوري وإسحاق ، وعائشة وغيرهم .
واحتج من قال : بجواز أكل المحرم ما صاده الحلال مطلقا ; بعموم الأحاديث الواردة بجواز أكل المحرم من صيد الحلال ، كحديث عند طلحة بن عبيد الله مسلم ، : والإمام أحمد وطلحة راقد ، فمنهم من أكل ومنهم من تورع فلم يأكل ، فلما استيقظ طلحة - رضي الله عنه - وافق من أكله وقال : أكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم . أنه كان في قوم محرمون ، فأهدي لهم طير ،
وكحديث البهزي واسمه زيد بن كعب ، أنه وادي الروحاء وهو صاحبه : شأنكم بهذا الحمار ، فأمر - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون ، أخرجه الإمامان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حمار وحشي عقير [ ص: 431 ] في بعض مالك في " موطئه " ، وأحمد في " مسنده " ، ، وصححه والنسائي وغيره ، كما قاله ابن خزيمة ابن حجر ، وممن قال بإباحته مطلقا أبو حنيفة وأصحابه .
قال مقيده - عفا الله عنه : أظهر الأقوال وأقواها دليلا ، هو القول المفصل بين ; فلا يحل له ، وبين ما صيد لأجل المحرم ; فإنه يحل له . ما صاده الحلال ، لا لأجل المحرم
والدليل على هذا أمران :
الأول : أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن ; لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ولا طريق للجمع إلا هذه الطريق ، ومن عدل عنها لا بد أن يلغي نصوصا صحيحة .
الثاني : أن جابرا - رضي الله عنه - روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " ، رواه الإمام صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ، ما لم تصيدوه ، أو يصد لكم أحمد ، وأبو داود ، ، والنسائي ، والترمذي ، وابن خزيمة ، وابن حبان والحاكم ، والبيهقي ، . والدارقطني
وقال : هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس ، فإن قيل في إسناد هذا الحديث ، الشافعي ، عن مولاه عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب المطلب ، عن جابر ، وعمرو مختلف فيه ، قال فيه : ليس بالقوي في الحديث ، وإن كان قد روى عنه النسائي مالك .
وقال الترمذي في مولاه المطلب أيضا : لا يعرف له سماع من جابر ، وقال فيه الترمذي أيضا في موضع آخر ، قال محمد : لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة ، إلا قوله حدثني من شهد خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
فالجواب أن هذا كله ليس فيه ما يقتضي رد هذا الحديث ; لأن عمرا المذكور ثقة ، وهو من رجال البخاري ومسلم ، وممن روى عنه ، وكل ذلك يدل على أنه ثقة ، وقال فيه مالك بن أنس ابن حجر في " التقريب " : ثقة ربما وهم ، وقال فيه النووي في " شرح المهذب " : أما تضعيف فغير ثابت ; لأن عمرو بن أبي عمرو ، البخاري ومسلما رويا له في صحيحيهما ، واحتجا به ، وهما القدوة في هذا الباب .
[ ص: 432 ] وقد احتج به مالك ، وروى عنه وهو القدوة ، وقد عرف من عادته أنه لا يروي في كتابه إلا عن ثقة ، وقال فيه : ليس به بأس ، وقال أحمد بن حنبل أبو زرعة : هو ثقة ، وقال أبو حاتم : لا بأس به .
وقال : لا بأس به ; لأن ابن عدي مالكا روى عنه ، ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة ، قلت : وقد عرف أن الجرح لا يثبت إلا مفسرا ، ولم يفسره ، ابن معين بما يثبت تضعيف والنسائي عمرو المذكور ، وقول الترمذي : إن مولاه ، لا يعرف له سماع من المطلب بن عبد الله بن حنطب جابر ، وقول البخاري : لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة إلا قوله : حدثني من شهد خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء من ذلك ما يقتضي رد روايته ، لما قدمنا في سورة النساء من أن التحقيق هو الاكتفاء بالمعاصرة . للترمذي
ولا يلزم ثبوت اللقي ، وأحرى ثبوت السماع ، كما أوضحه الإمام - رحمه الله تعالى - في مقدمة " صحيحه " ، بما لا مزيد عليه ، مع أن مسلم بن الحجاج ذكر في كلامه هذا الذي نقله عنه البخاري الترمذي ، أن المطلب مولى عمرو بن أبي عمرو المذكور ، صرح بالتحديث ممن سمع خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو تصريح بالسماع من بعض الصحابة بلا شك .
وقال النووي في " شرح المهذب " : وأما إدراك المطلب لجابر ، فقال : وروى عن ابن أبي حاتم جابر ، قال : ويشبه أن يكون أدركه ، هذا هو كلام ، فحصل شك في إدراكه ، ومذهب ابن أبي حاتم الذي ادعى في مقدمة " صحيحه " الإجماع فيه أنه مسلم بن الحجاج ، والإمكان حاصل قطعا ، ومذهب لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء ، بل يكتفى بإمكانه ، علي بن المديني ، والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء ، فعلى مذهب والبخاري مسلم الحديث متصل ، وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلا لبعض كبار التابعين ، وقد سبق أن ; أو قول أكثر العلماء ، أو غير ذلك مما سبق . مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة
وقد اعتضد هذا الحديث ، فقال به من الصحابة - رضي الله عنهم - من سنذكره في فرع مذاهب العلماء . اهـ . كلام النووي ، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور على كل التقديرات ، على مذاهب الأئمة الأربعة ; لأن منهم هو الذي لا يحتج [ ص: 433 ] بالمرسل ، وقد عرفت احتجاجه بهذا الحديث على تقدير إرساله . الشافعي
قال مقيده - عفا الله عنه : نعم ، يشترط في قبول التصريح بالسماع ، رواية المدلس والمطلب المذكور مدلس ، لكن مشهور مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد - رحمهم الله تعالى - ، ولاسيما إذا اعتضد بغيره كما هنا ، وقد علمت من كلام صحة الاحتجاج بالمرسل النووي موافقة الشافعية .
واحتج من قال بأن المرسل حجة بأن العدل لا يحذف الواسطة مع الجزم بنسبة الحديث لمن فوقها ، إلا وهو جازم بالعدالة والثقة فيمن حذفه ، حتى قال بعض المالكية : إن ; لأنه ما حذف الواسطة في المرسل إلا وهو متكفل بالعدالة والثقة فيما حذف بخلاف المسند ، فإنه يحيل الناظر عليه ، ولا يتكفل له بالعدالة والثقة ، وإلى هذا أشار في " مراقي السعود " بقوله في مبحث المرسل : [ الرجز ] المرسل مقدم على المسند
وهو حجة ولكن رجحا عليه مسند وعكس صححا
ومن المعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى ، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد مع أن هذا الحديث له شاهد عند الخطيب من رواية وابن عدي عثمان بن خالد المخزومي ، عن مالك ، عن ، كما نقله ابن عمر ابن حجر في " التلخيص " وغيره وهو يقويه .
وإن كان عثمان المذكور ضعيفا ; لأن الضعيف يقوي المرسل ، كما عرف في علوم الحديث ، فالظاهر أن حديث جابر هذا صالح ، وأنه نص في محل النزاع ، وهو جمع بين هذه الأدلة بعين الجمع الذي ذكرنا أولا ، فاتضح بهذا أن الأحاديث الدالة على منع كلها محمولة على أنه صاده من أجله ، وأن الأحاديث الدالة على إباحة الأكل منه محمولة على أنه لم يصده من أجله ، ولو صاده لأجل محرم معين حرم على جميع المحرمين ، خلافا لمن قال : لا يحرم إلا على ذلك المحرم المعين الذي صيد من أجله . أكل المحرم مما صاده الحلال
ويروى هذا عن - رضي الله عنه - وهو ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم : عثمان بن عفان " ، ويدل للأول ظاهر قوله في حديث " أو يصد لكم أبي قتادة : " ، فمفهومه أن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم كلهم ، ويدل له أيضا ما رواه هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار لها ؟ " قالوا : لا ، قال : " فكلوه " أبو داود عن علي أنه دعي وهو محرم إلى [ ص: 434 ] طعام عليه صيد فقال : " أطعموه حلالا فإنا حرم " ، وهذا مشهور مذهب مالك عند أصحابه مع اختلاف قوله في ذلك .