إن الله كان على كل شيء شهيدا ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم .
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر جدا على القول بأن سبب نزول الآية السابقة هو ما تقدم من حيث تفضيل الرجال على النساء في الإرث ، وكذا على القول بعموم التمني في تلك الآية ، فإن أكثر التحاسد وتمني ما عند الغير يكون في المال ، وقلما يتمنى الناس ما فضلهم به غيرهم من الجاه إلا من حيث إن ذلك الجاه يستتبع المال في الغالب ، فالعالم الزاهد في الدنيا المعرض عنها لا يكاد يحسده على علمه أحد إلا أن يكون لعلة غير العلم كأن يكون علمه مظهرا لجهل الأدعياء وينقص من رزقهم واحترامهم .
[ ص: 53 ] الأستاذ الإمام : الظاهر أن الكلام في الأموال ، فإنه نهى عن أكلها بالباطل ، ثم نهى عن تمني أحد ما فضله به غيره من المال ; لأن التمني يسوق إلى التعدي وإنما أورد النهي عاما لزيادة الفائدة ، والسياق يفيد أن المال هو المقصود أولا وبالذات ; لأن أكثر التمني يتعلق به ، وذكر القاعدة العامة في الثروة وهي الكسب ، ثم انتقل من ذكر الغالب هو الكسب إلى غير الغالب وهو الإرث فقال : ولكل جعلنا موالي مما ترك ، فالموالي من لهم الولاية على التركة ، و " من " في قوله تعالى : مما ترك ابتدائية ، والجملة تتم بقوله : ترك والمعنى : ولكل من الرجال الذين لهم نصيب مما اكتسبوا والنساء اللواتي لهن نصيب مما اكتسبن ، موالي لهم حق الولاية على ما يتركون من كسبهم ، وهؤلاء الموالي هم : الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم أي : جميع الورثة من الأصول والفروع والحواشي ، والأزواج ، كما تقدم التفصيل في أول السورة فالمراد هنا بالذين عقدت أيمانكم : الأزواج ، فإن كل واحد من الزوجين يصير زوجا له حق الإرث بالعقد ، والمتعارف عند الناس في العقد أن يكون بالمصافحة باليدين : فآتوهم نصيبهم ، أي : فأعطوا هؤلاء الموالي نصيبهم المفروض لهم ولا تنقصوهم منه شيئا ولما كان الميراث موضعا لطمع بعض الوارثين ـ أي : ولا سيما من يكون في أيديهم المال لإقامة المورث معهم ـ قال تعالى بعد الأمر بإعطاء كل ذي حق حقه : إن الله كان على كل شيء شهيدا أي : إنه تعالى رقيب عليكم حاضر يشهد تصرفكم في التركة وغيرها ، فلا يحملنكم الطمع وحسد بعضكم لبعض الوارثين على أن يأكل من نصيبه شيئا سواء أكان ذكرا أم أنثى كبيرا أم صغيرا .
أقول : إن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام هو المتبادر الذي لا يعثر فيه الفكر ، ولا يكبو في ميدانه جواد الذهن ، ولا يحتاج فيه إلى تكلف في الإعراب ، ولا إلى القول بالنسخ ، فأين منه تلك الأقوال المتكلفة التي انتزعها المفسرون من تنوين قوله تعالى : ولكل فهو هاهنا بدل من مضاف إليه محذوف لدلالة السياق عليه ، كما هو المعهود في مثله من هذه اللغة ، والمأخذ القريب المتبادر لهذا المضاف إليه هو الآية السابقة التي عطف عليها قوله : ولكل فاختار أن المخاطبين بالنهي والأمر في تلك الآية هم المخاطبون بالحكم في امتثاله في هذه الآية المعطوفة عليها ، واختار جمهور المفسرين البعد في التقدير فقدروا المضاف إليه لفظ تركة أو مال أو ميت أو قوم ، قال القاضي البيضاوي : أي : ولكل تركة جعلنا وراثا يلونها ويحوزونها ، مما ترك بيان لكل مع الفصل بالعامل ، أو لكل ميت جعلنا وراثا مما ترك على أن من صلة موالي ; لأنه في معنى الوارث وفي ترك ضمير كل و الوالدان والأقربون استئناف مفسر للموالي وفيه خروج الأولاد ، فإن الأقربون لا يتناولهم كما لا يتناول الوالدين ، أو لكل قوم جعلناهم موالي حظ مما ترك الوالدان والأقربون على أن [ ص: 54 ] جعلنا موالي صفة كل ، والراجع إليه محذوف ، وعلى هذا فالجملة من مبتدأ وخبر اهـ ، وقوله : إن الأولاد لا يدخلون في الأقربين غير مسلم ، ولماذا لم يقل مثله في تفسير قوله تعالى في أوائل هذه السورة : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ( 4 : 7 ) ، إلخ ، بل فسر الأقربين بالمتوارثين بالقرابة ، وذكر في سبب نزولها ما ورد في إرث البنات والزوجة .
وفسر بعضهم : الذين عقدت أيمانكم بموالي الموالاة ورووا أن الحليف كان يرث السدس من مال حليفه في الجاهلية ، وأقره الإسلام أولا ثم نسخ بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ( 8 : 75 ) ، وروى عن ابن جرير قتادة أنه قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول : دمي دمك وهدمي هدمك ، وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك ، فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم ، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال ـ وذكر الآية المذكورة آنفا ـ وروي مثل ذلك عن ، ولكن لا علاقة لهذا بالآية ، فالظاهر أن سورة النساء نزلت بعد سورة الأنفال ، فإن سورة الأنفال نزلت في سنة ابن عباس بدر ، والمواريث شرعت بعد ذلك ، والآية التي نفسرها نزلت بعد آية المواريث لا لأنها بعدها في ترتيب السورة ، بل لأنها أشارت إلى أحكام المواريث ، وبنيت على أن الله تعالى جعل لكل من الوارثين نصيبا يجب أن يؤدى إليه تماما ، فهل يعقل أن تكون مع ذلك مقررة للإرث بالتحالف ، إن القرآن لم يشرع للناس الإرث بالتحالف ، وإنما أبطله ونسخ ما كان عليه الناس فيه قبل نزول آيات المواريث كما هو ظاهر ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح ذلك ، وكان عليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث .
والمراد بالعقل دية القتل ، والذي صح عن عند ابن عباس البخاري وأبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما آخى في أول الهجرة بين والنسائي المهاجرين والأنصار كان المهاجر يرث أخاه الأنصاري دون ذوي رحمه ، فلما نزلت هذه الآية نسخ ذلك ، وجعل جملة والذين عقدت أيمانكم استئنافية ، والوقف على ما قبلها ، قال : والمعنى : فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة والنصيحة قد ذهب الميراث ويوصى له ، وظاهر أن الذي نسخ هذا الإرث هو قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ( 33 : 6 ) ، وهو في سورة الأحزاب ، أما الموالي في الآية التي نفسرها فهم الوارثون ، كما في قوله تعالى حكاية عن زكريا ـ عليه السلام ـ وإني خفت الموالي من ورائي ( 19 : 5 ) .
هذا وإن الأستاذ الإمام قد سبق إلى القول بأن المراد بـ عقدت أيمانكم عقد النكاح فهو [ ص: 55 ] مختار له لا مبتكر ، وقد ذهل من قال من ناقليه : إنه خلاف الظاهر مستدلا بأنه لم يعهد إضافته إلى اليمين ; فإنه لا يلتزم هو ولا غيره ممن يوافقه في هذه المسألة أن يكون كل استعمال في القرآن ، أو في كلام البلغاء معهودا في كلام الناس قبله لاستلزام ذلك نفي الابتكار ، وأن كل استعمال يجب أن يكون قديما معروفا في الجاهلية ، وذلك باطل بالبداهة ، فكم في القرآن والحديث من أبكار الأساليب الحسان ، اللاتي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، وما من بليغ إلا وله مخترعات في البيان ، لم يسلك فجاجها من قبله إنسان ، ولماذا يستبعد إسناد عقد النكاح إلى الأيمان دون غيرها من العقود ، كالحلف والبيع ، والمعهود في جميعها وضع اليمين في اليمين ؟ وقد قرأ الكوفيون : عقدت بغير ألف ، والباقون عاقدت بألف المفاعلة ، وقرئ في شواذ : عقدت بتشديد القاف .