الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولآمرنهم فليغيرن خلق الله تغيير خلق الله وسوء التصرف فيه عام يشمل التغيير الحسي كالخصاء ، وقد رووا تفسيره بالخصاء عن ابن عباس وأنس بن مالك وغيرهما - فليعتبر به من يطعنون في الإسلام نفسه باتخاذ ملوك المسلمين وأمرائهم للخصيان ، ويظنون أن خصيهم جائز في هذا الدين - ويشمل سائر أنواع التشويه والتمثيل بالناس الذي حرمه الشرع ، وإذا كان قد حرم تبتيك آذان الأنعام فكيف لا يحرم سمل أعين الناس وصلم آذانهم وجدع أنوفهم وما أشبه ذلك مما كان يفعله بعض الملوك والأمراء الظالمين بغير حق [ ص: 350 ] ولا حجة ، ويشمل التغيير المعنوي ، وقد روى ابن عباس وغيره أن المراد هنا بخلق الله دينه ; لأنه دين الفطرة وهي الخلقة ، قال - تعالى - : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ( 30 : 30 ) ، وروى أيضا تفسير تغيير خلق الله بوشم الأبدان ووشر الأسنان ، وكل منهما يقصد به الزينة ، وفي الحديث لعن الله الواشمة والمستوشمة ولعل سبب التشديد فيه إفراطهم فيه حتى يصل إلى درجة التشويه بجعل معظم البدن ولا سيما الظاهر منه كالوجه واليدين أزرق بهذا النقش القبيح وكان الناس ولا يزالون يجعلون منه صورا للمعبودات وغيرها كما يرسم النصارى به الصليب على أيديهم وصدورهم ، وأما وشر الأسنان بتحديدها وأخذ قليل من طولها إذا كانت فلا يظهر فيه معنى التغيير المشوه ، بل هو إلى تقليم الأظافر وتقصير الشعر أقرب ، ولولا أن الشعر والأظافر تطول دائما ولا تطول الأسنان لما كان ثم فرق ، وجملة القول أن التغيير الصوري الذي يجدر بالذم يعد من إغراء الشيطان هو ما كان فيه تشويه ، وإلا لما كان من السنة الختان والخضاب وتقليم الأظافر .

                          الأستاذ الإمام : جرى قليل من المفسرين على أن المراد بتغيير خلق الله تغيير دينه ، وذهب بعضهم إلى أنه التغيير الحسي ، وبعضهم إلى أنه التغيير المعنوي ، وبعضهم إلى ما يشملهما ، وقال كثير منهم : إن المراد تغيير الفطرة الإنسانية بتحويل النفس عما فطرت عليه من الميل إلى النظر والاستدلال وطلب الحق وتربيتها على الأباطيل والرذائل والمنكرات ، فالله سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه ، وهؤلاء يفسدون ما خلق ويطمسون عقول الناس ، اهـ .

                          أقول : إن هذا القول هو بمعنى القول بأن المراد تغيير الدين ; لأن من قالوا إنه تغيير الدين استدلوا بالآية فأقم وجهك للدين كما ذكرنا ذلك آنفا ، والدين الفطري الذي هو من خلق الله وآثار قدرته ليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل - عليهم السلام - ، فإن هذه الأحكام من كلام الله الذي أوحاه إليهم ليبلغوه ويبينوه للناس ، لا مما خلقه في أنفس الناس وفطرهم عليه ، وقد بينا الدين الفطري في غير هذا الموضع ، ومعنى كون الإسلام دين الفطرة ، وحديث كل مولود يولد على الفطرة وقد أشار الأستاذ الإمام إلى ذلك بما نقلناه عنه آنفا من كون الإنسان فطر على طلب الحق والاستدلال والأخذ بما يظهر له بالدليل أنه الحق أو الخير إن لم يكن ظاهرا بالبداهة ، ومن أصول الدين وأسسه الفطرية العبودية للسلطة الغيبية التي تنتهي إليها الأسباب وتقف دون اكتناه حقيقتها العقول ، أي : لمصدر هذه السلطة والتصرف في الكائنات كلها وهو الله - عز وجل - ، وكان أكبر وأشد [ ص: 351 ] مفسدات الفطرة حصر تلك السلطة العليا في بعض المخلوقات التي يستكبرها الإنسان ويعيا في فهم حقيقتها بادي الرأي وإن كان فهمها وعلمها ممكنا في نفسه لو جاءه طالبه من طريقه ، وهذا هو أصل الشرك وقد بيناه آنفا في تفسير إن الله لا يغفر أن يشرك به ( 4 : 48 ) ، وفي مواضع أخرى ، ويتلو هذا الفساد والإفساد التقليد الذي يمده ويؤيده ، ويحول بين العقول التي كمل الله بها فطرة البشر وبين عملها الذي خلقت لأجله ، وهو النظر والاستدلال لأجل التوصل إلى معرفة الحق والخير ، وترجيح الحق والخير متى تبينا له على ما يقابلهما .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية