قال تعالى : فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله هذا تفصيل لحال النساء في هذه الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل ، ذكر أنهن فيها قسمان : صالحات وغير صالحات ، وأن من صفة الصالحات القنوت ، وهو السكون والطاعة لله تعالى ، وكذا لأزواجهن بالمعروف وحفظ الغيب .
قال الثوري وقتادة : حافظات للغيب يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال ، وروى ابن جرير والبيهقي من حديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : أبي هريرة خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها وقرأ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الآية ، وقال الأستاذ الإمام : الغيب هنا هو ما يستحيا من إظهاره ، أي : حافظات لكل ما هو خاص بأمور الزوجية الخاصة بالزوجين ، فلا يطلع أحد منهن على شيء مما هو خاص بالزوج .
أقول : ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة ، ولا سيما حديث الرفث ، فما بالك بحفظ العرض ، وعندي أن هذه العبارة هي أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة ، تقرؤها خرائد العذارى جهرا ، ويفهمن ما تومئ إليه مما يكون سرا ، وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمس وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها ، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات التي تدفع الدم إلى الوجنات ، ناهيك بوصل حفظ الغيب .
بما حفظ الله فالانتقال السريع من ذكر ذلك الغيب الخفي إلى ذكر الله الجلي ، يصرف النفس عن التمادي في التفكر فيما يكون وراء الأستار من تلك الخفايا والأسرار ، وتشغلها بمراقبته عز وجل ، وفسروا قوله تعالى : بما حفظ الله بما حفظه لهن في مهورهن وإيجاب النفقة لهن ، يريدون أنهن تحفظن حق الرجال في غيبتهم جزاء المهر ووجوب النفقة المحفوظين [ ص: 59 ] لهن في حكم الله تعالى ، وما أراك إلا ذاهبا معي إلى وهن هذا القول وهزاله ، وتكريم أولئك الصالحات بشهادة الله تعالى أن يكون حفظهن لذلك الغيب من يد تلمس ، أو عين تبصر ، أو أذن تسترق السمع ، معللا بدراهم قبضن ، ولقيمات يرتقبن ، ولعلك بعد أن تمج هذا القول يقبل ذوقك ما قبله ذوقي وهو أن الباء في قوله : بما حفظ الله هي صنو " باء " " لا حول ولا قوة إلا بالله " ، وأن المعنى حافظات للغيب بحفظ الله أي : بالحفظ الذي يؤتيهن الله إياه بصلاحهن ; فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة ، قوية على حفظ الأمانة ، أو حافظات له بسبب أمر الله بحفظه ، فهن يطعنه ويعصين الهوى ، فعسى أن يصل معنى هذه الآية إلى نساء عصرنا اللواتي يتفكهن بإفشاء أسرار الزوجية ، ولا يحفظن الغيب فيها .