ولا يظلمون فتيلا أي : ولا يظلم الله هؤلاء الذين يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه [ ص: 124 ] شيئا مما يستحقونه بأعمالهم ولو حقيرا كالفتيل ، وقد بينا من قبل أن أصل الظلم بمعنى النقص ، أي : لا ينقصهم من الجزاء على أعمالهم الحسنة شيئا ما بعدم تزكيته إياهم ؛ لأن عدم تزكيتهم إنما يكون بعدم اتباعهم لما تكون به النفس زكية من هداية الدين والعقل ونظام الفطرة ، والفتيل : ما يكون في شق نواة التمرة مثل الخيط ، وما تفتله بين أصابعك من وسخ أو خيط ، وتضرب العرب به المثل في الشيء الحقير فهو بمعنى إن الله لا يظلم مثقال ذرة ( 4 : 40 ) ، وتقدم تفسيره من عهد قريب ، فخذلان الملوثين برذيلة الشرك في الدنيا بالعبودية لغيرهم وغير ذلك من آثار انحطاطهم ، وعذابهم في الآخرة وحرمانهم من نعيمها لا يكون بظلم من الله عز وجل لهم ونقصه إياهم شيئا من ثواب أعمالهم ، وإنما يكون بنقصان درجات أعمالهم ، وعجزها عن العروج بأرواحهم ، بل بتدسيتها لنفوسهم ، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل ولكل درجات مما عملوا ( 6 : 132 ) ، كدرجات الحرارة في ميزانها ، ودرجات الرطوبة في ميزانها ، فما كل درجة من الأولى يغلي بها الماء ، ولا كل درجة منها يكون بها جليدا ، ولا كل درجة من الثانية ينزل بها المطر ، وكدرجات امتحان طلاب العلوم في المدارس ، أو الأعمال في الحكومة لا ينال الفوز فيها إلا بالدرجات العلى المحدد أدناها وأعلاها بالحكمة .
والآية تدل على أن ، وإن كان مشركا ; لأن لعمله أثرا في نفسه يكون مناط الجزاء ، فإذا لم يصل تأثير عمل المشرك إلى الدرجة التي يكون بها النجاة من العذاب ألبتة ، فإن عمله ينفعه بكون عذابه أقل من عذاب من لم يعمل من الخير مثل عمله ، مثال ذلك في الدنيا رجلان يشربان الخمر ، أحدهم مقل والآخر مكثر ، فضرر المكثر يكون أكبر من ضرر المقل ، وآخران متساويان في الشرب ولكن بنية أحدهما قوية تقاوم الضرر أن يفتك بالجسم ، وبنية الآخر ضعيفة لا تستطيع المقاومة ، فإن ضرر هذا من الشرب يكون أشد من ضرر ذاك . الله تعالى يجزي كل عامل خير بعمله
كذلك الروح القوية السليمة الفطرة الصحيحة الإيمان المزكاة بالعمل الصالح لا تهبط بها السيئة الواحدة والسيئتان إلى درجة الأشرار الفجار فتجعلها شقية مثلهم ، بل يغلب خيرها على الشر الذي يعرض لها ، فيزيله أو يضعفه حتى يكون ضررها غير مهلك ، ومنه تعلم أن بعض المؤمنين الصالحين قد يعذب في الدنيا والآخرة بذنبه ولكنه لا يكون من الهالكين الخالدين .
والعبرة بهذه الآية وما قبلها للمسلمين هي وجوب اتقاء ما هم عليه من الغرور بدينهم ، كما كان أهل الكتاب في عصر التنزيل ، وما قبله وما بعده بقرون ، واتقاء مثل ما كانوا عليه من تزكية أنفسهم بالقول واحتقار من عداهم من المشركين الذي انجر إلى احتقار المسلمين عند ظهور الإسلام ، حتى كان عاقبة ذلك الغرور وتلك التزكية الباطلة في الدنيا أن غلبهم [ ص: 125 ] المسلمون على أمرهم ، واستولوا على أرضهم وديارهم ، وليعلموا أن الله العظيم الحكيم لا يحابي في سننه المطردة في نظام خلقه مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا ؛ لأجل اسمه ولقبه ، أو لانتسابه بالاسم إلى أصفيائه من خلقه ، بل كانت سننه حاكمة على أولئك الأصفياء أنفسهم حتى إن خاتم النبيين صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم قد شج رأسه وكسرت سنه ، وردي في الحفرة يوم أحد لتقصير عسكره فيما يجب من نظام الحرب ، فإلى متى أيها المسلمون هذا الغرور بالانتماء إلى هذا الدين ، وأنتم لا تقيمون كتابه ولا تهتدون به ، ولا تعتبرون بما فيه من النذر ، ألا ترون كيف عادت الكرة إلى تلك الأمم عليكم بعد ما تركوا الغرور ، واعتصموا بالعلم والعمل ، بما جرى عليه نظام الاجتماع من الأسباب والسنن ، حتى ملكت دول الأجانب أكثر بلادكم ، وقام اليهود الآن ليجهزوا على الباقي لكم ، ويستردوا البلاد المقدسة من أيديكم ويقيموا فيها ملكهم ؟ ! فاهتدوا بكتاب الله الحكيم وبسننه في الأمم ، واتركوا وساوس الدجالين الذين يبثون فيكم نزعات الشرك فيصرفونكم عن قواكم العقلية والاجتماعية ، وعن الاهتداء بكلام ربكم إلى الاتكال على الأموات ، والاستمساك بحبل الخرافات ، ويشغلونكم عن دينكم ودنياكم بما لم ينزله الله تعالى عليكم من الأوراد والصلوات ، وما غرضهم بذلك إلا سلب أموالكم ، وحفظ جاههم الباطل فيكم ، أفيقوا أفيقوا ، تنبهوا تنبهوا ، واعلموا أن الله لم يظلم ولا يظلم أحدا فتيلا ، فما زال ملككم ، ولا ذهب عزكم ، إلا بترك هداية ربكم ، واتباع هؤلاء الدجالين منكم .