المبحث الأول في أولي الأمر في الصدر الأول :
أولو الأمر في كل قوم وكل بلد وكل قبيلة معروفون ؛ فإنهم هم الذين يثق بهم الناس في أمور دينهم ، ومصالح دنياهم ؛ لاعتقادهم أنهم أوسع معرفة وأخلص في النصيحة ، وقد كانوا في عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكونون معه حيث كان ، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات ، ثم تفرقوا ، وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام ( الخليفة ) وفي الشورى ، وفي السياسة ، والإدارة والقضاء ، فأما البيعة فكانوا يرسلون إلى البعيد من أمراء الأجناد ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم ، ولما لم يبايع معاوية أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه ـ وكان له عصبة قوية ـ قال من قال من الناس : إنه كان مجتهدا في حربه وقد كان [ ص: 159 ] في أتباعه من هو حسن النية ، كما كان فيهم محب الفتنة ، ومن قال فيهم أمير المؤمنين : " أتباع كل ناعق " ، ولو كانت البيعة في عنقه لما كان ثم مجال لاشتباه من كان مخلصا في أمره .
وأما فكانوا يجمعون له من حضر من أهل العلم والرأي ورؤساء الناس ، فيأخذون برأيهم فيما لا نص فيه . القضاء
روى الدارمي والبيهقي عن قال : " كان ميمون بن مهران أبو بكر إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم ، وإن لم يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه سنة ، فإن علمها قضى بها ، فإن لم يعلمها خرج فسأل المسلمين ، فقال : أتاني كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفي سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم أجد في ذلك شيئا ، فهل تعلمون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى في ذلك بقضاء ؟ فربما قام إليه الرهط ، فقالوا : نعم قضى فيه بكذا وكذا ، فيأخذ بقضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقول عند ذلك : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا ، وإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به ، وإن كان يفعل ذلك ، فإن أعياه أن يجد شيئا في الكتاب أو السنة نظر هل كان عمر بن الخطاب لأبي بكر فيه قضاء فإن وجده قضى به ، فإن لم يجد دعا رءوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به " ، فليتأمل الفقيه تفرقة أبي بكر بين من يسأل عن الرواية لقضاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين من يستشار في وضع حكم جديد أو استنباطه ، فأما الرواية فكان يسأل عنها عامة الناس ، وأما الاستشارة فكان يجمع لها الرءوس والعلماء وهم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بالرد إليهم ، ولم يذكر الراوي ما كان يعمل الخليفتان إذا اختلف أولئك المستشارون في القضية .
وروى عن ابن عساكر قال : قال لي شريح القاضي : " أن اقض بما استبان لك من كتاب الله ، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاقض بما استبان لك من أمر الأئمة المهتدين ، فإن لم تعلم كل ما قضت به الأئمة فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح " اهـ ، والرواية ضعيفة ، وفيها من الغرابة لفظ الأئمة ولم يكن وقتئذ أئمة متعددون يعتمد على قضائهم لبنائه على الكتاب والسنة . عمر بن الخطاب
وروى في الأوسط ، الطبراني وأبو سعيد في القضاء عن علي قال : " قلت : يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل فيه قضاء في أمره ولا سنة كيف تأمرني ؟ قال : تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ولا تقض فيه برأيك خاصة ، وتأمل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " تجعلونه " والعدل به عن " تجعله " ـ والخطاب للمفرد ـ فإن فيه أن هذا الجعل [ ص: 160 ] من حق جماعة المؤمنين ، والمراد بالفقه معرفة مقاصد الشريعة وحكمها ، لا علم أحكام الفروع المعروف ، فإن هذه تسمية محدثة كما بينه في الإحياء ، الغزالي ، والحكيم الترمذي وغيرهم ، وكان رءوس المسلمين في ذلك العصر من أهل هذا الفقه غالبا . والشاطبي
وأما فمثالها ما ورد في الصحيحين وغيرهما : أن استشارتهم في الأمور الإدارية عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد وأصحابه فأخبروه أن الوباء وقع أبو عبيدة بن الجراح بالشام ، قال : فقال ابن عباس عمر : ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم له ، فاستشارهم ، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام ، فاختلفوا ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه ، وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء .
فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم ، فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي من كان هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدهم على هذا الوباء ، فنادى عمر في الناس : إني مصبح على ظهر أي : مسافر ، والظهر : ظهر الراحلة ، فأصبحوا عليه ، فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافه ـ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ قال : فجاء ، وكان متغيبا في بعض حاجته ، فقال : إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " عبد الرحمن بن عوف ، قال : فحمد الله إذا سمعتم به ـ أي الوباء ـ بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ، ثم انصرف اهـ . عمر بن الخطاب
أقول : وفي هذه الواقعة من العبرة أن عمر ـ رضي الله عنه ـ حكم مشيخة قريش في الخلاف بين جمهور المهاجرين والأنصار ، فلما اتفقوا على ترجيح أحد الرأيين أنفذه ، وهذا نحو ما اخترناه في تفسير الآية ، وفيه أيضا أنه لا يشترط في الرجوع إلى رأي أولي الأمر أن يكونوا محيطين بما ورد في السنة من قضاء وعمل أو حديث ، وصرح بهذا الأصوليون في صفات المجتهد .
كان الخلفاء الراشدون وقضاتهم العادلون يعرفون رءوس الناس ، وأهل العلم والرأي والدين ، ويعرفون أنهم هم أولو الأمر فيدعونهم عند الحاجة ، وكانت يراجعه حتى أضعف رجالها ونسائها فيما يخطئ فيه ، كما راجعت المرأة [ ص: 161 ] الأمة في مجموعها رقيبة على أميرها عمر في الصداق ، فاعترف بخطئه وإصابتها على المنبر ، فكيف بأولي الأمر الذين يتبعهم خلق كثير ؟ ولم يكن لأحد من الخلفاء الراشدين عصبية تمنعه من المسلمين إن أراد أن يستبد فيهم إلا ما كان لعثمان من عصبية بني أمية ، ولم يرد هو أن يستبد بقوتهم وعصبيتهم ، ولما أخذته الأمة بظلمهم لم يغنوا عنه شيئا ، فالخلفاء الراشدون كانوا مخلصين في مشاركة أولي الأمر من الأمة في الحكم ، والتقيد برأيهم فيما لا نصف فيه لقوة دينهم ا; ولأن هذا هو الذي كان متعينا ، ولم يكن في استطاعة أحد منهم ـ والإسلام في عنفوان قوته ـ أن يتخذ له عصبية يستبد بها دون أولي الأمر إن شاء ـ على أنه لقوة دينه لا يشاء ـ وهذه الحال من الأسباب التي حالت دون الشعور بالحاجة إلى وضع أولي الأمر لنظام يكفل دوام العمل بالشورى الشرعية ، وتقييد الأمراء والحكام برأي أولي الأمر .