أخرج في صحيحه من حديث البخاري المرفوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أبي هريرة وتقدم في تفسير الآية السابقة أن الأستاذ الإمام ، قال : إن إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة في هذا الحديث ساعة الأمة التي تقوم فيها قيامتها أي : تدول دولتها على حد : من مات فقد قامت قيامته ، وفي " إحياء علوم الدين " : أن القيامة قيامتان القيامة الصغرى وهي قيامة أفراد الناس بالموت ، والقيامة الكبرى وهي قيامتهم كلهم بانتهاء هذا العالم والدخول في عالم الآخرة ، وقد يقال : إن قيامة الجماعات كقيامة الأفراد ، والتجوز بالساعة في هذا المقام أقرب إلى اللغة من التجوز بلفظ القيامة ; فإن القيامة من القيام ، وهي : المراد بالساعة يوم يقوم الناس لرب العالمين ( 83 : 6 ) ، وأما الساعة فهي الوقت المعين مطلقا ، ولا يزال الناطقون بالعربية يقولون : جاءت ساعة فلان ، أو جاء وقته ، والقرينة تعين المراد بذلك الوقت وتلك [ ص: 175 ] الساعة ، وإن خروج أمر الناس من يد أهله ـ القادرين على القيام به كما يجب ـ سبب لفساد أمرهم ومدن للساعة التي يهلكون فيها بالظلم ، أو بخرج الأمر من أيديهم ، ثم راجعت مفردات الراغب فرأيت له في تفسير الساعات تقسيما ثلاثيا : الساعة الكبرى بعث الناس للحساب ، والوسطى موت أهل القرن الواحد ، والصغرى موت الإنسان الواحد ، وحمل على الأخير بعض الآيات .
توسيد الأمة الإسلامية أمرها إلى غير أهله لا يمكن أن يكون باختيارها ، وهي عالمة بحقوقها قادرة على جعلها حيث جعلها كتاب الله تعالى ، وإنما يسلبها المتغلبون هذا الحق بجهلها وعصبيتهم التي يعلو نفوذها نفوذ أولي الأمر ، حتى لا يجرؤ أحد منهم على أمر ولا نهي ، أو يعرض نفسه للسجن أو النفي أو القتل .
هذا ما كان وهذا هو سبب سقوط تلك الممالك الواسعة ، وذهاب تلك الدول العظيمة ووقوع ما بقي في أيدي المسلمين تحت وصاية الدول العزيزة ، التي لم تعتز وتقو إلا بجعل أمرها بيد الأمة ، وتوسيد هذا الأمر إلى أهله ، وهو هو الذي تركه المسلمون من إرشاد دينهم ، وما تيسر لهم ترك أصول الشورى وتقديس الملوك والأمراء المستبدين إلا في الزمن الطويل بعد أن حجبوا الأمة عن كتاب ربها وسنة نبيها فجهلت حقوقها ، ثم أفسدوا عليها بعض أولي الأمر منها ، وأسقطوا قيمة الآخرين بضروب من المكايد الدينية والدنيوية .
نعم ، كان الجهل بالكتاب والسنة هو الذي مكن لأهل العصبية في بلاد المسلمين بالتدريج ، فكان أول ملك من ملوك العصبية قريبا من الخلفاء الراشدين في احترام أولي الأمر الذين تثق بهم الأمة لدينهم وعلمهم قبل أن تقوى العصبية عليهم ، واعتبر ذلك بأخبار معاوية ومن بعده ، دخل على أبو مسلم الخولاني معاوية ، فقال : السلام عليك أيها الأجير ، فقالوا : قل السلام عليك أيها الأمير ، فقال : السلام عليك أيها الأجير ، فأعادوا قولهم وأعاد قوله ، فقال معاوية : دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول ، ونظم ذلك فقال : أبو العلاء المعري
مل المقام فكم أعاشر أمة أمرت بغير صلاحها أمراؤها ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وضع هؤلاء العلماء الرسميون قاعدة لأمرائهم ولأنفسهم هدموا بها القواعد التي قام بها أمر الدين والدنيا في الإسلام ، وهي أنه يجوز أن يكون أولياء الأمور كالأئمة والولاة والقضاة والمفتين فاقدين للشروط الشرعية التي دل على وجوبها واشتراطها الكتاب والسنة وإن صرح [ ص: 176 ] بها أئمة الأصول والفقه ، قالوا : يجوز إذا فقد الحائزون لتلك الشروط ، مثال ذلك أنه يشترط فيهم العلم الاستقلالي المعبر عنه بالاجتهاد ، وقد صرح هؤلاء بجواز تقليد الجاهل ـ أي : المقلد ـ وعدوه من الضرورة ، وأطلق الكثيرون هذا القول ، وجرى عليه العمل ، وذلك من توسيد الأمر إلى غير أهله الذي يقرب خطوات ساعة هلاك الأمة ، ومن علاماتها ذهاب الأمانة وظهور الخيانة ، ولا خيانة أشد من توسيد الأمر إلى الجاهلين ، روى مسلم ، وأبو داود من حديث : ابن عباس وإن لحديث من استعمل عاملا من المسلمين ، وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه ، وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه ، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين الذي تقدم في توسيد الأمر إلى غير أهله مقدمة ، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : البخاري " والأحاديث في هذا الباب كثيرة . إذا ضيعت الأمانة انتظر الساعة قيل : يا رسول الله ، وما إضاعتها ؟ فقال : " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة
أطلق أعوان الملوك والأمراء القول بجواز ، وكذا فاقد غير العلم من شروط الولايات كالعدالة الشرعية ، ولم يصرح الكثيرون منهم بأن هذه ضرورة مؤقتة ، وأنه يجب على الأمة إذا فقد شرط من شروط إقامة أمر دينها أو دنياها أن تسعى في إقامته ، ومن صرح بذلك من أفراد المحققين ذهب قوله في الجمهور الجاهل عبثا ، والأمة كلها تكون آثمة إذا فقد أولو الأمر والأمراء والحكام ما يجب فيهم من العلم والتقوى ، ويجب عليها السعي والعمل لإيجاد الصالحين لذلك الذين يقيمون أمر الدين والدنيا ، وأن تكون هي التي تحكم بفقد تلك الشروط كلها ، أو بعضها وتقدره بقدره . تولية الجاهل
قال ابن تيمية في كتابه : السياسة الشرعية : الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة ، واختلفوا في اشتراط العلم هل يجب أن يكون مجتهدا ، أو يجوز أن يكون مقلدا ، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر على ثلاثة أقوال ، وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع ، ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة ، إذا كان أصلح الموجود ، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها كما يجب على المعسر في وفاء دينه ، وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه ، وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز ، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، بخلاف الاستطاعة في الحج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها ; لأن الوجوب هناك لا يتم إلا بها اهـ .
وجملة القول : أنه ما وسد أمر الولايات العامة والخاصة إلى غير أهله إلا بجهل أولي الأمر وضعفهم ، ثم بإفساد الأمراء لهم ، والواجب على الأمة أن تعرف ما يشترط فيهم وتعيد إليهم حقهم ليعيدوا إليها حقها .