: قاعدة في الإفراد والجمع
من ذلك ( ) حيث وقع في القرآن ذكر الأرض فإنها مفردة ، ولم تجمع - بخلاف السماوات - لثقل جمعها وهو أرضون ، ولهذا لما أريد ذكر جميع الأرضين قال : السماء والأرض ومن الأرض مثلهن [ الطلاق : 12 ] .
وأما السماء : فذكرت تارة بصيغة الجمع ، وتارة بصيغة الإفراد ، لنكت تليق بذلك المحل ، كما أوضحته في " أسرار التنزيل " والحاصل : أنه حيث أريد العدد أتي بصيغة الجمع الدالة على سعة العظمة والكثرة ، نحو : سبح لله ما في السماوات [ الصف : 1 ] أي : جميع سكانها على كثرتهم . يسبح لله ما في السماوات [ الجمعة : 1 ] أي : كل واحد على اختلاف عددها . قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ النمل : 65 ] إذ المراد نفي [ ص: 574 ] علم الغيب عن كل من هو في واحدة من السماوات .
وحيث أريد الجهة أتي بصيغة الإفراد ، نحو : وفي السماء رزقكم [ الذاريات : 22 ] أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض [ الملك : 16 ] أي : من فوقكم .
ومن ذلك ( ، فحيث ذكرت في سياق الرحمة جمعت ، أو في سياق العذاب أفردت . الريح ) ذكرت مجموعة ومفردة
أخرج وغيره ، عن ابن أبي حاتم ، قال : كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة ، وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب . أبي بن كعب
ولهذا ورد في الحديث : اللهم اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا .
وذكر في حكمة ذلك : أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهبات والمنافع ، وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها ، فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات ; فكانت في الرحمة رياحا . وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد ولا معارض لها ولا دافع .
وقد خرج عن هذه القاعدة قوله تعالى : في سورة يونس : وجرين بهم بريح طيبة [ يونس : 22 ] وذلك لوجهين :
لفظي : وهو المقابلة ، في قوله : جاءتها ريح عاصف ورب شيء يجوز في المقابلة ولا يجوز استقلالا ، نحو : ومكروا ومكر الله [ آل عمران : 54 ] .
ومعنوي : وهو أن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها ، فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد ، فإن اختلفت عليها الرياح كان سبب الهلاك ، والمطلوب هنا ريح واحدة ، ولهذا أكد هذا المعنى بوصفها بالطيب . وعلى ذلك أيضا جرى قوله : إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد [ الشورى : 33 ] .
وقال ابن المنير : إنه على القاعدة ; لأن سكون الريح عذاب وشدة على أصحاب السفن .
ومن ذلك ) في قوله تعالى : إفراد ( النور ) وجمع ( الظلمات ) وإفراد ( سبيل الحق ) وجمع ( سبل [ ص: 575 ] الباطل ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام : 153 ] ; لأن طريق الحق واحدة ، وطريق الباطل متشعبة متعددة . والظلمات بمنزلة طرق الباطل ، والنور بمنزلة طريق الحق ، بل هما هما .
ولهذا وحد ولي المؤمنين ، وجمع أولياء الكفار - لتعددهم - في قوله تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات [ البقرة : 257 ] .
ومن ذلك لأن الجنان مختلفة الأنواع ، فحسن جمعها ، والنار مادة واحدة . ولأن الجنة رحمة والنار عذاب ، فناسب جمع الأولى وإفراد الثانية ، على حد الرياح والريح . إفراد ( النار ) حيث وقعت ، و ( الجنة ) وقعت مجموعة ومفردة ;
ومن ذلك ) ; لأن السمع غلب عليه المصدرية فأفرد ، بخلاف البصر : فإنه اشتهر في الجارحة ; ولأن متعلق السمع الأصوات وهي حقيقة واحدة ، ومتعلق البصر الألوان والأكوان وهي حقائق مختلفة ، فأشار في كل منهما إلى متعلقه . إفراد ( السمع ) وجمع ( البصر
ومن ذلك ) في قوله تعالى : إفراد ( الصديق ) وجمع ( الشافعين فما لنا من شافعين ولا صديق حميم [ الشعراء : 100 - 101 ] . وحكمته كثرة الشفعاء في العادة ، وقلة الصديق . قال : ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم ، نهضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة ، وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة ، وأما الصديق : فأعز من بيض الأنوق . الزمخشري
ومن ذلك : ( الألباب ) لم يقع إلا مجموعا ; لأن مفرده ثقيل لفظا .
ومن ذلك ، فحيث أفردا فاعتبارا للجهة ، وحيث ثنيا فاعتبارا لمشرق الصيف والشتاء ومغربهما ، وحيث جمعا فاعتبارا لتعدد المطالع في كل فصل من فصلي السنة . مجيء ( المشرق والمغرب ) بالإفراد والتثنية والجمع
وأما وجه اختصاص كل موضوع بما وقع فيه : ففي سورة الرحمة وقع بالتثنية ; لأن سياق السورة سياق المزدوجين ، فإنه سبحانه وتعالى ذكر أولا نوعي الإيجاد وهما الخلق والتعليم . ثم ذكر سراجي العالم : الشمس والقمر . ثم نوعي النبات : ما كان على ساق وما لا ساق له ، وهما النجم والشجر ، ثم نوعي السماء والأرض . ثم نوعي العدل والظلم . ثم نوعي [ ص: 576 ] الخارج من الأرض وهما الحبوب والرياحين . ثم نوعي المكلفين وهما : الإنس والجان . ثم نوعي المشرق والمغرب ، ثم نوعي البحر الملح والعذب ; فلهذا حسن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة ، وجمعا في قوله فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون [ المعارج : 40 ] ، وفي سورة الصافات للدلالة على سعة القدرة والعظمة .
فائدة : حيث ورد ( البار ) مجموعا في صفة الآدميين قيل : ( أبرار ) . وفي صفة الملائكة قيل : ( بررة ) . ذكره الراغب ، ووجهه : بأن الثاني أبلغ ; لأنه جمع بار ، وهو أبلغ من ( بر ) مفرد الأول .
وحيث ورد ( الأخ ) مجموعا في النسب قيل : ( إخوة ) . وفي الصداقة قيل : ( إخوان ) قاله ابن فارس وغيره . وأورد عليه في الصداقة : إنما المؤمنون إخوة [ الحجرات : 10 ] . وفي النسب : أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن [ النور : 31 ] .
فائدة : ألف كتابا في الإفراد والجمع ، ذكر فيه جمع أبو الحسن الأخفش ، وأكثره من الواضحات ، وهذه أمثلة من خفي ذلك : ما وقع في القرآن مفردا ، ومفرد ما وقع جمعا
( المن ) : لا واحد له . ( السلوى ) : لم يسمع له بواحد . ( النصارى ) قيل : جمع نصراني وقيل : جمع نصير كنديم وقبيل . ( العوان ) جمعه عون . ( الهدى ) لا واحد له . ( الإعصار ) جمعه أعاصير . ( الأنصار ) واحده نصير ، كشريف وأشراف . ( الأزلام ) وأحدها زلم ، ويقال : زلم بالضم . ( مدرارا ) جمعه مدارير . ( أساطير : ) : واحده أسطورة ، وقيل : أسطار ، جمع سطر . ( الصور ) : جمع صورة ، وقيل : واحد الأصوار . ( فرادى ) : جمع أفراد ، جمع فرد .
( قنوان : ) : جمع قنو ، و ( صنوان : ) : جمع صنو ، وليس في اللغة جمع ومثنى بصيغة واحدة إلا هذان ، ولفظ ثالث لم يقع في القرآن ، قاله ابن خالويه في كتاب ( ليس ) .
( الحوايا ) : جمع حاوية ، وقيل : حاوياء . ( نشرا : ) : جمع نشور . عضين [ الحجر : 91 ] و عزين [ المعارج : 37 ] . جمع عضة وعزة . المثاني [ الحجر : 87 ] جمع مثنى . ( تارة ) [ الإسراء : 69 ] جمعها تارات وتير . أيقاظا [ الكهف : 18 ] جمع يقظ ( الأرائك ) جمع أريكة ( سري ) جمعه سريان ، كخصي وخصيان ( آناء الليل ) جمع إنا - بالقصر - كمعى ، وقيل : إني كقرد ، وقيل : إنوة كفرقة . ( الصياصي ) جمع صيصية . ( منسأة ) جمعها مناسئ . الحرور [ فاطر : 21 ] جمعه حرور ، بالضم . وغرابيب [ فاطر : 27 ] جمع غربيب ، أتراب [ ص : 52 ] جمع ترب ( الآلاء ) جمع إلى كمعى ، وقيل : ألى كقفى .
[ ص: 577 ] وقيل : إلي كقرد ، وقيل : ألو . التراقي [ القيامة : 26 ] جمع ترقوة ، بفتح أوله ( الأمشاج ) جمع مشيج . ألفافا [ النبإ : 16 ] جمع لف ، بالكسر . العشار [ التكوير : 4 ] جمع عشر . بالخنس [ التكوير : 15 ] جمع خانسة ، وكذا الكنس [ التكوير : 16 ] . الزبانية [ العلق : 18 ] جمع زبنية ، وقيل : زابن ، وقيل : زباني أشتاتا [ النور : 61 ] جمع شت وشتيت . أبابيل [ الفيل : 3 ] لا واحد له ، وقيل : واحده إبول مثل عجول ، وقيل : إبيل مثل إكليل .
فائدة : مثنى وثلاث ورباع ) [ النساء : 3 ] . [ فاطر : 1 ] ومن غيرها ( ليس في القرآن من الألفاظ المعدولة إلا ألفاظ العدد : ( طوى ) [ طه : 12 ] فيما ذكره الأخفش في الكتاب المذكور ، ومن الصفات : أخر في قوله تعالى : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] .
قال الراغب : وغيره هي معدولة عن تقدير ما فيه الألف واللام ، وليس له نظير في كلامهم ، فإن ( أفعل ) إما أن يذكر معه ( من ) لفظا أو تقديرا ، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث وتحذف منه ( من ) فتدخل عليه الألف واللام ، ويثنى ويجمع وهذه اللفظة من بين أخواتها جوز فيها ذلك من غير الألف واللام .
وقال الكرماني في الآية المذكورة : لا يمتنع كونها معدولة عن الألف واللام مع كونها وصفا لنكرة ; لأن ذلك مقدر من وجه وغير مقدر من وجه .
قاعدة : مقابلة الجمع بالجمع تارة تقتضي مقابلة كل فرد من هذا بكل فرد من هذا ، كقوله : واستغشوا ثيابهم [ نوح : 7 ] أي : استغشى كل منهم ثوبه .
حرمت عليكم أمهاتكم [ النساء : 23 ] أي : على كل من المخاطبين أمه .
يوصيكم الله في أولادكم [ النساء : 11 ] أي : كلا في أولاده .
والوالدات يرضعن أولادهن [ البقرة : 233 ] أي : كل واحدة ترضع ولدها .
وتارة يقتضي ثبوت الجمع لكل فرد من أفراد المحكوم عليه ، نحو : فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور : 4 ] وجعل منه الشيخ عز الدين : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات [ البقرة : 25 ] .
وتارة يحتمل الأمرين ، فيحتاج إلى دليل يعين أحدهما :
وأما مقابلة الجمع بالمفرد : فالغالب ألا يقتضي تعميم المفرد ، وقد يقتضيه ، كما في [ ص: 578 ] قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ البقرة : 184 ] المعنى : على كل واحد لكل يوم طعام مسكين ، والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور : 4 ] ; لأن على كل واحد منهم ذلك .