فصل
اختلف : هل المتشابه مما يمكن الاطلاع على علمه ، أو لا يعلمه إلا الله ؟
على قولين ، منشؤهما الاختلاف في قوله : والراسخون في العلم [ آل عمران : 7 ] . هل هو معطوف و يقولون حال ؟ أو مبتدأ ، خبره يقولون والواو للاستئناف ؟
وعلى الأول : طائفة يسيرة ، منهم مجاهد ، وهو رواية عن . فأخرج ابن عباس ابن المنذر من طريق مجاهد ، عن في قوله : ابن عباس وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم قال : أنا ممن يعلم تأويله .
وأخرج ، عن عبد بن حميد مجاهد في قوله : والراسخون في العلم قال : يعلمون تأويله ، ويقولون : آمنا به .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم الضحاك ، قال : الراسخون في العلم يعلمون تأويله ، ولو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه ، ولا حلاله من حرامه ، ولا محكمه من متشابهه .
واختار هذا القول النووي ; فقال في شرح مسلم : إنه الأصح ; لأنه يبعد أن يخاطب الله [ ص: 595 ] عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته .
وقال : إنه الظاهر . ابن الحاجب
وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم - خصوصا أهل السنة - فذهبوا إلى الثاني ، وهو أصح الروايات عن . ابن عباس
قال ابن السمعاني : لم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة ، واختاره العتبي ، قال : وقد كان يعتقد مذهب أهل السنة ، لكنه سها في هذه المسألة .
قال ولا غرو ، فإن لكل جواد كبوة ، ولكل عالم هفوة .
قلت : ويدل لصحة مذهب الأكثرين : ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ، والحاكم في مستدركه ، عن أنه كان يقرأ : ( وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به ) . ابن عباس
فهذا يدل على أن الواو للاستئناف ; لأن هذه الرواية - وإن لم تثبت بها القراءة - فأقل درجاتها أن يكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه .
ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة ، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله ، وسلموا إليه كما مدح الله المؤمنين بالغيب .
وحكى الفراء : أن في قراءة أيضا : ( ويقول الراسخون ) . أبي بن كعب
وأخرج ابن أبي داود في " المصاحف " من طريق الأعمش ، قال في قراءة : ( وإن [ حقيقة ] تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) . ابن مسعود
وأخرج الشيخان وغيرهما ، عن عائشة ، قالت : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله : أولو الألباب [ آل عمران : 7 ] .
قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم
وأخرج في الكبير ، عن الطبراني أبي مالك الأشعري : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : [ ص: 596 ] لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله . الحديث .
وأخرج ابن مردويه ، من حديث ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : عمرو بن شعيب . إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به
وأخرج الحاكم ، عن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن مسعود آمنا به كل من عند ربنا . كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومتشابه ، وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا :
وأخرج البيهقي في الشعب نحوه ، من حديث . أبي هريرة
[ ص: 597 ] وأخرج ، عن ابن جرير مرفوعا : ابن عباس أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب . ثم أخرجه من وجه آخر عن موقوفا بنحوه . ابن عباس
وأخرج من طريق ابن أبي حاتم عن العوفي قال : ( نؤمن بالمحكم وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به ، وهو من عند الله كله ) . ابن عباس
وأخرج - أيضا - عن عائشة قالت : ( كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه ) .
وأخرج - أيضا - عن أبي الشعثاء وأبي نهيك ، قال : إنكم تصلون هذه الآية وهي مقطوعة .
وأخرج الدارمي في مسنده ، عن : أن رجلا يقال له صبيغ قدم سليمان بن يسار المدينة ، فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر ، وقد أعد له عرجونا من العراجين ، فضربه حتى دمى رأسه .
وفي رواية عنده : فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ، ثم تركه حتى برأ ، ثم عاد له ، ثم تركه حتى برأ ، فدعا به ليعود ، فقال : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا . فأذن له إلى أرضه ، وكتب إلى ألا يجالسه أحد من المسلمين . أبي موسى الأشعري
[ ص: 598 ] وأخرج الدارمي ، عن ، قال : إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن ، فخذوهم بالسنن ، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله . عمر بن الخطاب
فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلا الله ، وأن الخوض فيه مذموم ، وسيأتي قريبا زيادة على ذلك .
قال الطيبي : المراد بالمحكم ما اتضح معناه ، والمتشابه بخلافه ; لأن اللفظ الذي يقبل معنى : إما أن يحتمل غيره أو لا ، والثاني : النص ، والأول : إما أن تكون دلالته على ذلك الغير أرجح أو لا ، والأول : هو الظاهر ، والثاني : إما أن يكون مساويه أو لا ، والأول : هو المجمل ، والثاني : المؤول . فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه .
ويؤيد هذا التقسيم : أنه تعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه ، قالوا : فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله .
ويعضد ذلك أسلوب الآية ، وهو الجمع مع التقسيم ; لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب ، بأن قال منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، وأراد أن يضيف إلى كل منهما ما شاء ، فقال أولا : فأما الذين في قلوبهم زيغ إلى أن قال : والراسخون في العلم يقولون آمنا به وكان يمكن أن يقال ( وأما الذين في قلوبهم استقامة ، فيتبعون المحكم ) لكنه وضع موضع ذلك والراسخون في العلم لإتيان لفظ الرسوخ ; لأنه لا يحصل إلا بعد التثبت العام والاجتهاد البليغ ، فإذا استقام القلب على طرق الإرشاد ، ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق وكفى بدعاء الراسخين في العلم ربنا لا تزغ قلوبنا [ آل عمران : 8 ] إلى آخره . . . . شاهدا على أن والراسخون في العلم مقابل لقوله : و الذين في قلوبهم زيغ .
وفيه إشارة إلى أن الوقف على قوله : إلا الله تام ، وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى ، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث ، بقوله : " ( فاحذروهم " ) .
وقال بعضهم : العقل مبتلى باعتقاد حقية المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادة ، كالحكيم : إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ; ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه ، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره .
[ ص: 599 ] وقيل : لو لم يبتل العقل - الذي هو أشرف البدن - لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد ، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية ، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها .
وفي ختم الآية بقوله تعالى : وما يذكر إلا أولو الألباب تعريض بالزائغين ، ومدح للراسخين ، يعني : من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه ، فليس من أولي العقول ، ومن ثم قال الراسخون : ربنا لا تزغ قلوبنا إلى آخر الآية ، فخضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللدني ، بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفساني .
وقال الخطابي : : أحدهما : ما إذا رد إلى المحكم واعتبر به عرف معناه ، والآخر : ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته ، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ فيطلبون تأويله ، ولا يبلغون كنهه ، فيرتابون فيه فيفتتنون . المتشابه على ضربين
وقال ابن الحصار : ، وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب ; لأن إليها ترد المتشابهات ، وهي التي تعتمد في فهم مراد الله من خلقه في كل ما تعبدهم به من معرفته ، وتصديق رسله ، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وبهذا الاعتبار كانت أمهات . قسم الله آيات القرآن إلى محكم ومتشابه
ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه ، ومعنى ذلك : أن من لم يكن على يقين من المحكمات ، وفي قلبه شك واسترابة ، كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات ، ومراد الشارع منها التقدم إلى فهم المحكمات ، وتقديم الأمهات ، حتى إذا حصل اليقين ورسخ العلم لم تبال بما أشكل عليك .
ومراد هذا الذي في قلبه زيغ التقدم إلى المشكلات ، وفهم المتشابه قبل فهم الأمهات ، وهو عكس المعقول والمعتاد والمشروع ، ومثل هؤلاء مثل المشركين الذين يقترحون على رسلهم آيات غير الآيات التي جاءوا بها ، ويظنون أنهم لو جاءتهم آيات أخر لآمنوا عندها ، جهلا منهم ، وما علموا أن الإيمان بإذن الله تعالى . انتهى .
وقال الراغب في " مفردات القرآن " : : الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب
محكم على الإطلاق ، ومتشابه على الإطلاق ، ومحكم من وجه متشابه من وجه .
: فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب
، ومن جهة المعنى فقط ، ومن جهتهما . متشابه من جهة اللفظ فقط
فالأول : ضربان :
[ ص: 600 ] أحدهما : يرجع إلى الألفاظ المفردة ; إما من جهة الغرابة نحو : ( الأب ) و يزفون [ الصافات : 94 ] أو الاشتراك كاليد واليمين .
وثانيهما : يرجع إلى جملة الكلام المركب ; وذلك ثلاثة أضرب :
ضرب لاختصار الكلام ، نحو : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم [ النساء : 3 ] .
وضرب لبسطه ، نحو : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] لأنه لو قيل : ( ليس مثله شيء ) كان أظهر للسامع .
وضرب لنظم الكلام ، نحو : أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [ الكهف : 1 - 2 ] تقديره : ( أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ) .
: أوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة ; فإن تلك الأوصاف لا تتصور لنا ، إذا كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه ، أو ليس من جنسه . والمتشابه من جهة المعنى
خمسة أضرب : والمتشابه من جهتهما
الأول : من جهة الكمية ، كالعموم والخصوص ، نحو : فاقتلوا المشركين [ التوبة : 5 ] .
والثاني : من جهة الكيفية ، كالوجوب والندب ، نحو : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] .
والثالث : من جهة الزمان ، كالناسخ والمنسوخ ، نحو : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] .
والرابع : من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها ، نحو : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ البقرة : 189 ] . إنما النسيء زيادة في الكفر [ التوبة : 37 ] ; فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية .
الخامس : من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد ، كشروط الصلاة والنكاح .
قال : وهذه الجملة إذا تصورت ، علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم .
ثم : جميع المتشابه على ثلاثة أضرب
، كوقت الساعة ، وخروج الدابة ، ونحو ذلك . ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه
، كالألفاظ الغريبة والأحكام الفلقة . وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته
، يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من [ ص: 601 ] دونهم ، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم وضرب متردد بين الأمرين اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل . لابن عباس
وإذا عرفت هذه الجهة عرفت أن الوقف على قوله : وما يعلم تأويله إلا الله ووصله بقوله : والراسخون في العلم جائز ، وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم . انتهى .
وقال الإمام فخر الدين : ، وهو إما لفظي أو عقلي : صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل
والأول : لا يمكن اعتباره في المسائل الأصولية ; لأنه لا يكون قاطعا لأنه موقوف على انتفاء الاحتمالات العشرة المعروفة ، وانتفاؤها مظنون ، والموقوف على المظنون مظنون ، والظني لا يكتفى به في الأصول .
وأما العقلي : فإنما يفيد صرف اللفظ من ظاهره لكون الظاهر محالا ، وأما إثبات المعنى المراد فلا يمكن بالعقل ; لأن طريق ذلك ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل ، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدليل اللفظي ، والدليل اللفظي في الترجيح ضعيف لا يفيد إلا الظن ، والظن لا يعول عليه في المسائل الأصولية القطعية ; فلهذا اختار الأئمة المحققون من السلف والخلف - بعد إقامة الدليل القاطع على أن حمل اللفظ على ظاهره محال - ترك الخوض في تعيين التأويل . انتهى .
وحسبك بهذا الكلام من الإمام .