القسم الثاني من النقدين ما يكون قيما في المتاجر ، والتاجر إما أن يباشر بنفسه أو بغيره ، والمباشر بنفسه إما أن ينتظر حوالة الأسواق - وهو المحتكر - أو لا - وهو المدير - والمباشر لغيره هو المقارض ، فهذه ثلاث حالات : الحالة الأولى : عند المحتكر ، فتجب الزكاة عليه مالك والأئمة لقوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " . ( التوبة : 103 ) وفي أبي داود : ( ) وفي هذه الحالة : [ ص: 17 ] ( فروع ستة ) : كان عليه السلام يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع
الأول ، قال سند : فإن اشترى بعرض كان للتجارة ، ولم تخل نيته فعليه الزكاة إذا باع ، فإن اشترى بعرض مقتنى تنزل المشترى منزلة أصله ، ولا تؤثر فيه نية التجارة تغليبا للأصل ، قاله : مالك ، خلافا للأئمة ، ولأنه لم يملكه بعين زكاته ولا ما تضمنها ، فهو كالهبة والميراث والغنيمة إذا نوى بها التجارة ، فلا زكاة عند الجميع ، ولأن زكاة القيم تابعة لزكاة العين ، ولا عين ، فلا زكاة ، فإن اشتراه لعين بناه على حولها ، فإن لم يبعه بعد حول العين ، قال مالك : لا يزكي حتى يبيع خلافا ل ( ش ) و ( ح ) وخيراه بين إخراج ربع عشر العرض أو ربع عشر قيمته ، لنا : أن وجود العين في يده معتبر في الابتداء فكذلك في الانتهاء ، فإن زكى قبل البيع لم تجزه عند ابن القاسم لعدم الوجوب خلافا لأشهب ; لأنه يرى الوجوب متحققا ، وإنما ترتب الإخراج على البيع وهو مذهبه في الدين .
الثاني : في ( الكتاب ) : إذا استهلك عرض التجارة فأخذ قيمة بناها على حوله كالثمن ; لأنه ثمن بالعقد ، والقيمة ثمن بالشرع ، ولأن القيمة قائمة مقام المقوم ، ولذلك سميت قيمة ، فإن أخذ بالقيمة سلعة للتجارة ( فهي للتجارة ، أو للقنية ) فهي للقنية لا تزكى بعد البيع ، قال سند : إذا أخذ من المتعدي عروضا فلا زكاة ولو حال عليها الحول قبل التعدي ، وكذلك لو باع بثمن فلم يقبضه حتى أخذ عنه عرضا لعدم وجود العين .
الثالث : في ( الكتاب ) : فإنه يزكي حينئذ بعد القبض ، فإن أخذ في المائة ثوبا فباعه بعشرة فلا يزكي إلا أن يكون عنده ما يكمل به النصاب ، أو يبيع بنصاب ; لأن القيم أمور متوهمة ، وإنما يحققها البيع . إذا باع سلعة للتجارة بعد الحول
الرابع : قال ابن القاسم في ( الكتاب ) : ، أو ارتجع من مفلس سلعته ، أو أخذ من غريمه عبدا في دينه أو دارا فأجرها سنين ، رجع جميع ذلك لحكم أصله من التجارة ، فإن ما كان للتجارة لا يبطل إلا بنية [ ص: 18 ] القنية ، والعبد المأخوذ يتنزل منزلة أصله . قال إذا ابتاع عبدا للتجارة فكاتبه فعجز سند : فلو ابتاع الدار أو غيرها بقصد الغلة ، ففي استئناف الحول بعد البيع لمالك روايتان ، وأجاز ابن القاسم الاستئناف ، ولو ابتاعها للتجارة والسكنى : فلمالك قولان مراعاة لقصد الثمنية بالغلة والتجارة ، وتغليبا لنية القنية على نية الثمنية ; لأنها الأصل في العروض ، فإن اشترى ولا نية له فهي للقنية ; لأنه الأصل فيها .
قاعدة : كل ما له ظاهر فهو منصرف لظاهره إلا عند قيام المعارض الراجح ، وكل ما ليس له ظاهر لا يترجح إلا بمرجح ، ولذلك انصرفت العقود إلى النقود الغالبة ; لأنها ظاهرة فيها ، وإلى تصرف الإنسان لنفسه دون مواليه ; لأنه الغالب عليه ، وإلى الحل دون الحرمة ; لأنه ظاهر حال المسلم ، وإلى المنفعة المقصودة من العين عرفا ; لأنه ظاهر فيها ، ولا يحتاج إلى التصريح بها ، واحتاجت العبادات إلى النيات لتردد ما بينها وبين العادات وترددها بين مراتبها من الفرض والنفل وغيره ، والكائنات إلى المميزات لترددها بين المقاصد ، وهي قاعدة يتخرج عليها كثير من أبواب الفقه .
الخامس : في ( الكتاب ) : ، أخرج زكاته يوم حصاده إن كان خمسة أوسق ، ثم ابتدأ حولا وقومه بعده إن كان مديرا وله عين سواه ، وإلا زكاه بعد البيع بعد حول ، فإن باع قبله انتظر الحول إن كان نصابا ; لأنه لا يزكى مال في حول مرتين ، فإن زرعها بطعامه أو كانت له فزرعها للتجارة زكاه يوم حصاده إن كان خمسة أوسق ، فإن باعه فالثمن . إذا اكترى أرضا فابتاع طعاما فزرعه فيها للتجارة
فائدة : والفرق أنه متولد عن الأرض والبذر كتولد السخال عن الماشية ، [ ص: 19 ] فلما كان أحدهما ليس للتجارة سقط حكمها تغليبا للأصل في القنية . وفي ( الجواهر ) : وقيل في حكم الزرع أنه للأرض كما غلبت الأم في لحوق الولد في الزنا على الأب ، وقيل : للبذر والعمل نظرا للكثرة ، وقال عبد الحميد : يفض على الثلاثة فما ناب ما للتجارة زكي ، ولو كان وجبت زكاة العين دون التجارة . مال التجارة ماشية
قال سند : وأسقط أشهب ; لأن التجارة إنما تكون بالبيع والشراء غالبا بل هذا كمبتاع الغنم للبنها والعبد لغلته ، وعند الزكاة في وجهي الزراعة ابن القاسم لو كان مديرا وحل شهره والزرع بقل قومه بقلا ، وإن حل بعد تعلق زكاة الزرع به لا يقومه ولا تبنه ; لأنه تابع للحب قبل الانفصال ، والمال لا يزكى في عام مرتين ، وكذلك لو فلا يزكى ثمنها إلا بعد حول من حينئذ ، فإن حل حوله بعد زكاة الحب زكى ناضه وعروضه وتبن الحب ، ولا يزكى الحب إلا بعد حول من يوم زكاته ، وكذلك ثمنه إن باعه . اشترى غنما فزكاها زكاة الماشية
السادس : في ( الكتاب ) : سقطت الزكاة ، وقاله ( ش ) و ( ح ) . من اشترى عرضا للتجارة ثم نوى القنية
وفي الجلاب لو اشترى عرضا للقنية فنوى به التجارة لا يكون للتجارة بل يستقبل حولا بعد البيع ، وقالهمالك والأئمة . والفرق [ ص: 20 ] من وجهين : الأول : أن الأصل في العروض القنية ، فيرجع إلى أصلها بالنية ، ولا يخرج عنه ، كما لا يرجع المقيم مسافرا ; لأن الأصل الإقامة حتى ينضاف إليها فعل الخروج ويصير مقيما بها لسلامتها عن معارضة الأصل . الثاني : أن حقيقة القنية الإمساك . وقد وجد حقيقة البيع للربح ولم يوجد ، وقال أشعب : لا تبطل التجارة بالنية ، فإن الفعل السابق - وهو الشراء للتجارة - أقوى من النية ، فإنه مقصد وهي وسيلة ، والمقاصد مقدمة على الوسائل . ( الحالة الثانية ) : الإدارة كالخياط والزيات ومن ينقل القماش إلى البلاد فيجعل لنفسه شهرا يقوم فيه عروض التجارة ; فيزكي قيمتها مع عينه ودينه إلا ما لا يرتجيه منه ، فكذلك لو تأخر بيعها وقبض دينه عاما آخر ، والفرق بينه وبين المحتكر : أن ضبط حول كل سلعة مع تكرر ذلك مع الأيام عسر ، فإن ألزمناه بذلك أضررنا به ، أو أسقطنا الزكاة أضررنا بالفقراء فكانت المصلحة الجامعة كما ذكرناه وسوى ش وح بينهما . وقال سند : ومبدأ الحول اليوم الذي يزكى فيه المال قبل إدارته أو يوم إفادته إن كانت الإدارة قبل تزكيته فيبنى على حول أصله ، فإن اختلطت أحواله جرى على اختلاف أصحابنا في ضم الفوائد إذا اختلطت أحوالها ، فإن لم يكن له ناض ، أو له لكنه أقل من الجزء الواجب عليه : قال مالك : يبيع العرض ; لأن الزكاة إنما تجب في القيم ، فلو أخرج العرض لكان كإخراج القيمة وهو المشهور ، وقال أيضا ش وح : يخير بين البيع وإخراج الثمن ، وبين إخراج العرض ; لأن الزكاة مرتبطة بالعروض من جهة أنها مملوكة وهي الكائنة في الحول ، والقيم متوهمة لم توجد ومرتبطة بالقيم لأنها النصاب ، وهي السبب الشرعي ، فخير لذلك ، وقال ابن نافع : لا يزكي حتى ينض عشرون دينارا بعد حول فيزكيها ثم يزكي بعد ذلك ما قل ، ولا يقوم ; لأن الزكاة إنما تتعلق بالثمن بشرط النضوض ، وروى ابن القاسم في مدير لا يقوم ، بل [ ص: 21 ] متى نض له شيء زكاه ما صنع إلا خيرا وما أعرفه من عمل الناس ، قال ابن القاسم : والتقويم أحب إلي وإذا قلنا بالتقويم فيقوم ما يباع بالذهب بالذهب ، وما يباع غالبا بالفضة بالفضة ; لأنه قيمة الاستهلاك ، فإن كانت تباع بهما واستويا بالنسبة إلى الزكاة يخير والأضمن ، قال : الأصل في الزكاة الفضة قوم بها . وإن قلنا : إنهما أصلان فقال ( ح ) وابن حنبل : يعتبر الأفضل للمساكين ; لأن التقويم لحقهم ، وقوله في ( الكتاب ) : يقوم دينه ، محمول على دين المعاملة ، أما فقال دين القرض ابن حبيب : حتى يقبضه فيزكيه لعام واحد ; لأن القرض مصروف عن الإدارة كعرض ادخره للكسوة أو القنية ، والدين على المعسر لا يحسب ولا يقوم عند مالك والأئمة ، وقال ابن حبيب : يقومه لأنه ممكن البيع ، فإن كان على مليء وعليه بينة مرضية زكاه ، وإن كان مؤجلا على موسر فلا يزكيه عند ابن القاسم والأئمة لتعذر المطالبة به فأشبه المعسر ، وعند : يقومه لإمكان بيعه ، وإذا كان له مال غائب يعلم خبره ، قال ابن الماجشون مالك : لا يزكيه حتى يعلم خبره فيزكيه للسنين الماضية ; لأنه أولى بالسقوط من الدين على المعسر لتعذر بيعه ، بخلاف دين المعسر ، وفي ( الجواهر ) : المعتبر في الدين الحال : عدده إن كان عينا ، أو القيمة إن كان عرضا أو مؤجلا ، واختلف المتأخرون في تقويم دينه من الطعام نظرا لكونه بيع الطعام قبل قبضه أم لا .