الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

تخطيط وعمارة المدن الإسلامية

خالد محمد مصطفى عزب

المسألة الثالثة : أن الذي تجب مراعاته في أوضاع المدن أصلان مهمان دفع المضار، وجلب المنافع. [ ص: 120 ]

الأصل الأول: دفع المضار، وهي نوعان

أحدهما: أرضية، ودفعها بإدارة سياج الأسوار على المدينة، ووضعها في مكان ممتنع، إما على هـضبة مستوعرة من الجبل، أو باستدارة بحر أو نهر بها، حتى لا يوصل إليها، إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو، ويتضاعف تحصينها.

الثاني: سماوية، ودفعها باختيار المواضع الطيبة الهواء، لأن ما خبث منه بركوده، أو تعفن بمجاورته لمياه فاسدة، أو مناقع متعفنة، أو مروج خبيثة، يسرع المرض فيه للحيوان الكائن فيه لا محالة، كما هـو مشاهد بكثرة. قال ابن خلدون : وقد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بإفريقية، فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه، وقد يقال: إن ذلك حادث فيها.

توجيه

نقل البكري [1] في سبب حدوثه: أنه وقع فيها حفر ظهر فيه إناء من نحاس مختوم عليه برصاص، فلما فض خاتمه صعد منه دخان إلى الجو وانقطع، وكان ذلك بدء أمراض الحميات فيه. قال ابن خلدون: " وأراد بذلك أن الإناء كان فيه بعض عمل الطلسمات لوبائه، [ ص: 121 ] وأنه ذهب سره بذهابه، فرجع إلى العفن والوباء قال: وهذه الحكاية من مذاهب العامة ومناحيهم الركيكة، والبكري لم يكن من شأنه العلم واستنارة البصيرة، بحيث يدفع مثل هـذا، فنقله كما سمعه.

تحقيق

قال: والذي يكشف الحق في ذلك أن الأهوية العفنة أكثر ما يهيئها لتعفين الأجسام وأمراض الحميات ركودها، فإذا تخللها الريح ونفثت وذهب بها يمينا وشمالا، خبث شأن العفن، ومرض الحيوان منه والبلد إذا كثر ساكنه وكثرت حركاتهم، تموج الهواء، وحدث الريح المتخلل للهواء الراكد ولا كذلك إذا بقي الهواء على حالة ركوده بقلة الحركة، لخفة الساكن، فإن ضرره بالحيوان كثير.. وبلد " قابس " كانت عند استبحار العمران بإفريقية كثيرة الساكن، فكان ذلك معينا على تموج الهواء وتخفيف الأذى منه، فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض، وعندما خف ساكنها، ركد هـواؤها المتعفن بفساد مياهها، فكثر العفن والمرض، هـذا وجهه لا غير.

دلالة عكس

قال: وقد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت، ولم يراع فيها طيب الهواء، وكانت أمراضها كثيرة، لقلة ساكنها، وعندما كثر انتقل حالها عن ذلك، كدار الملك بفاس لهذا العهد المسمى بـ " فاس الجديد " ، وكثير من ذلك في العالم. [ ص: 122 ]

الأصل الثاني: جلب المنافع والمرافق، وذلك بمراعاة أمور

أحدها: الماء، كأن يكون البلد على نهر، أو بإزائه عيون عذبة، لأن وجوده كذلك يسهل الحاجة إليه، وهي ضرورية.

الثاني: طيب مرعى السائمة وقربه، إذ لا بد لكل ذي قرار من دواجن الحيوان، للنتاج والضرع والركوب.. ومتى كان المرعى الضروري لها كذلك، كان أوفق من معاناة المشقة في بعده.

الثالث: قرب المزارع الطيبة، لأن الزرع هـو القوت.. وكونها كذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله.

الرابع: الشجر للحطب والخشب، فالحطب لعموم البلوى به في وقود النيران، والخشب للمباني، وكثير مما يستعمل فيه، ضروريا أو كماليا.

الخامس: وليس بمثابة ما قبله قربه من البحر، لتسهيل الحاجة القصية من البلاد النائية.

ولا خفاء أن هـذه الأمور تتفاوت بحسب الحاجة، وما تدعو إليه ضرورة الساكن.

تنبيه

قال ابن خلدون: " وقد يكون الواضع غافلا عن حسن الاختيار الطبيعي، وإنما يراعي ما هـو أهم على نفسه أو قومه، [ ص: 123 ] من غير التفات لحاجة غيرهم، كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق والحجاز وإفريقية ، فإنهم لم يراعوا فيها إلا المهم عندهم من مراعي الإبل، وما يصلح لها من الشجر والماء الملح، ولم يراعوا الماء ولا المزارع والحطب والمراعي كالقيروان والكوفة والبصرة وسجلماسة وأمثالها " . قال: " ولهذا كانت أقرب إلى الخراب، لما لم تراع فيها الأمور الطبيعية " .

إعلام

مما يراعى في المدينة المبنية على البحر أمران أن تكون في جبل، وبين أمة موفورة العدد.. ومتى لم تكن كذلك، طرقها العدو البحري أي وقت أراد، لأمنه إجابة الصريخ لها، وعدم غناء حضرها المتعودين للدعة في الدفاع. قال ابن خلدون : " وهذا كـ " الإسكندرية " من المشرق، و " طرابلس " و " برقة " و " سلا " من المغرب، ومتى كانت متوعرة المسالك وحولها القبائل، بحيث يبلغهم الصريخ، تمنعت بذلك من العدو، ويئس من طروقها، كما في " سبتة " و " بجاية " وبلد " القل " على صغره.

فهم حقيقة

قال: فافهم ذلك، واعتبره في اختصاص " الإسكندرية " باسم الثغر من لدن الدولة العباسية، مع أن الدعوة كانت من ورائها لـ " برقة " و " إفريقية " ، اعتبارا للمخافة المتوقعة فيها من البحر، لسهولة وضعها. قال: ولذلك -والله أعلم- [ ص: 124 ] كان طروق العدو لها ولطرابلس في الملة مرات متعددة.

التالي السابق


الخدمات العلمية