الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

تخطيط وعمارة المدن الإسلامية

خالد محمد مصطفى عزب

المسألة الثالثة عشرة : أن الحضارة غاية للعمران، ومؤذنة بفساده لنهاية عمره، وذلك -لما تقدم- أن الملك غاية للعصبية، والحضارة غاية للبداوة.. والعمران كله -من بداوة وحضارة وملك وسوق- له عمر مخصوص، كما لأشخاص المكونات. والأربعون للإنسان غاية في تزايد قواه، عندها تقف الطبيعة عن ذلك برهة، ثم تأخذ في الانحطاط والحضارة في العمران غاية لا مزيد وراءها، لأن الترف إذا وجد فيه دعى بطبعه إليها، تفننا فيها، وتأنقا في استجادة أحوالها، وذلك هـو المراد بها. وإذا حصلت تلك الغاية فيها، تبعها طاعة الشهوات، وتلونت النفس من عوائدها بألوان كثيرة، لا تستقيم بها أصلا، في الدين ولا في الدنيا.

بيان الأول (الدين) من وجهين

أحدهما: أن من استحكام صبغة تلك العوائد، تلون النفس [ ص: 135 ] بألوان من الرذائل المخلة بالمروءة التي هـي عنوان الديانة، وجامعها خلق الشره والسفسفة.

الثاني: أن من تلك الرذائل المخلة بالمروءة ما يقضي بإسقاط الديانة رأسا، كالانهماك في الشهوات المحرمة، من الزنى واللواط وشرب الخمر، وشبه ذلك.

بيان الثاني: من وجهين

أحدهما: أن التفنن في الحضارة، تعظم به النفقة المتضاعفة بغلاء المصر، ويخرج عن القصد بسرفها حتى تذهب بطارف الكسب وتالده.

الثاني: أن الخلق الحاصل من الحضارة البالغة النهاية من الترف، هـي عين الفساد، لأن الإنسان إنما هـو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره، واستقامة خلقه للسعي في ذلك، والحضري لا يقدر على شيء من ذلك، حسبما يتبين، إن شاء الله!

عاطفة بيان: إذا انحرف الحضري عن استقامة دينه ودنياه، بما ينطبع في نفسه من صبغة العوائد الموجبة لذلك، فظاهر أن ذلك مستلزم لفساد المصر وخرابه.

أما من جهة فساد الدين، فمن وجهين: [ ص: 136 ]

أحدهما: ما يظهر فيه من الفساد المخل بنظامه المحفوظ برعاية الدين، كالكذب، والغش، والخلابة، والسرقة، والمقامرة، والفجور في الأيمان، والمجاهرة بالفسوق، وإطراح الحشمة حتى من الأقارب وذوي المحارم.

الثاني: ما تعود به عليه شهوة الزنى واللواط، من فساد النوع الذي به عمرانه. إذ ذاك من جملة ما يسترسل فيه مطيع هـواه في اتباع الشهوات. قال ابن خلدون : فافهم ذلك واعتبر به أن غاية العمران هـي الحضارة والترف، وأنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد، وأخذ في الهرم، كالأعمار الطبيعية للحيوان.

وأما من جهة فساد الدنيا فمن وجهين:

أحدهما: أن المترفين إذا كثروا في المصر، وفسدت أحوالهم واحدا واحدا، تأذن الله في خراب نظامه قال: وهذا معنى قول بعض أهل الحواضر: " إن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب " ، حتى إن كثيرا من العامة يتحامى غرسها بالدور، وليس المراد ذلك، ولا أنه خاصة فيها، وإنما معناه: أن البساتين وإجراء المياه، هـو من توابع الحضارة، إذ لا يقصد بها إلا أشكالها فقط، ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترف، وهو الطور الذي يخشى معه هـلاك المصر وخرابه. [ ص: 137 ]

الثاني: أن الحضري لا يقدر على مباشرة حاجته، ولا دفع مضاره.

فالأول: لعجزه بما حصل له من الدعة، أو ترفعه لما ربي عليه من الترف.

والثاني: لما فقد من خلق البأس بالمربى في قهر التأديب والتعليم، فهو لذلك عيال على الحامية المدافعة عنه. قال: ثم هـو -أيضا- فاسد في دينه غالبا، بما أفسدت منه العوائد، وما تلونت به النفس من ملكاتها، إلا في الأقل النادر، قال: وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته، وصار مسخا على الحقيقة.

التالي السابق


الخدمات العلمية