الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - دور عضو الهيئة التدريسية:

            عطفا على كل ما تقدم تجدر الإشارة إلى دور أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات العربية والإسلامية في عمليات التوطـين، وذلك من خـلال ما يقدمونه من ترجمة أو تعريب، فعند ترجمـة بعض المصطلحات والمفاهيم لا يثري هـؤلاء اللغة أو يكشفوا عن قدراتها في « التوليد» و «النحت» و «القياس» و «المجاز» و «التعريب» وحسب، بل إنهم يعملون على تأصيل مدركات العلم وتوطين قضاياه، فحين ينبه المدرس إلى دقة اللغـة العربية وهي تستوعب الحالات المتدرجـة أو المتفاوتة للظاهرة الواحدة: الإنسانية أو الطبيعية أو العضوية، إنما يثير بذلك ضمنا قضايا معرفية تتعلق بماهية العلم وحالاته، ففي إطار «علم وظائف الأعضاء» قد يتعرض الأستاذ إلى ذكر «ماء الرجل» بأكثر من مصطلح، وبحسب مستويات الإفراز المائي المذكـور، فهو «مـني» و «ودي» و «مذي» وهذه سعة فيها تعميق للعلم لا تتسع له اللغة الإنجليزية التي تقصر كل مستويات الإفراز المذكور بمصطلح واحد هـو «semen». [ ص: 157 ] وحين يقف أستاذ علم النفس العربي أمام مصطلح « repression» ولا يجد على الشائع إلا كلمة «كبت»، فإنه بإمكإنه التعريج على حقيقة أن اللغة العربية قد صاغت مصطلحا آخر يمثل معادلا سيكولوجيا لكلمة كبت ألا وهو «الكظم» الذي أشير إلى معناه بقوله تعالى:

            ( والكاظمين الغيظ ) (آل عمران:134) وهو مفهوم يعبر عن حالة أسمى من الكبت؛ لأن الكظم يتشكل وفقا للإرادة التي يولدها الالتزام الإسـلامي، الذي قد لا يدرك مفاعيله علم النفس الغربي.

            كذلك حين يترجم الأستاذ العربي كلمة «change» مدركا متى يترجمها بكلمة «تغير» ومتى يترجمها بكلمة «التغيير» وذلك بناء على قاعدة التعريف الدلالي بين التغير الذي يمثل ظاهرة تلقائية، والتغيير الذي يعكس معنى الفعل النابع عن الإدارة.

            فبمثل هـذه المداخلات التعريبية يمكن إعادة صياغة المفاهيم والمدركات على النحو الذي قد يبلور أو ينتج في النهاية تفسيرات أو نظريات جديدة.

            وعلى صعيد الطب بوسع تعليمه أو البحث في موضوعاته عن طريق اللغة القومية توفير فوائد تصب في خدمة التوطين على أكثر من مستوى، حتى على مستوى عمل الأطباء أنفسهم، خاصة إذا ما عرفنا أن المعاني الطبية قد تشهد بعض الالتباسات بسبب ما تتعرض له من تحريفات مردها اللغة الأجنبية، فمثلا حين يستخدم الألمان تعبير «عدم كفاءة القلب Hepzinsuffizienz» للإشارة إلى حالة لا تتجاوز إحساس المريض بألم في [ ص: 158 ] الصدر، يوفر التعريب العبارة المستوعبة للمعنى الدقيق بعيدا عن الالتباس الذي قد توقع فيه العبارة الألمانية المذكورة التي لا يكافئ معناها الحالة المرضية الحقيقية.

            أخيرا يجب تأكيد ضرورة أن تشمل الترجمة مختلف حلقات التعليم الجامعي، بدءا بالمنهج والتدريس والمراجع والتدريب وانتهاء بالبحوث العلمية، ولقد أكد ذلك المؤتمر السنوي السـادس لتعريب العلوم الذي انعقد في العام 2000م تحت إشراف «الجمعية العربية لتعريب العلوم» بالتعاون مع جامعة عين الشمس بالقاهرة، وبما نصه: «إن تعريب لغة تدريس العلم في بلاد الوطن العربي خطوة أساسية في تأصيل العلم والأسلوب العلمي في التفكير والسـلوك وتنمية ملكة الابتكار والإبداع» كما أن «تدريس مختلف العلوم باللغة العربية (عدا مادة أو مادتي اللغة الأجنبية) رفعا لكفاءة العملية التعليمية، وتعميقا لتوطين العلم في المجتمع، وحفاظا على هـوية أبنائنا».

            من كل ذلك نستخـلص أن تعـريب المنـاهج والتدريبـات والمراجـع والبحـوث العلمية، فضلا عن لغة التعليم والتدريس، من شأنه أن يوفر المناخ العلمي المناسب الذي يساعد على تحقيق التطوير وتوفـير فرص الإبداع، وفي إطـار ما يخـدم قوى البيئة والمجتمـع وينميها، وهذا هـو التوطين. [ ص: 159 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية