الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            النتائج والتوصيات

            وبعد هذا التطواف السريع مع الأبعاد الاقتصادية في هجرة الكفاءات العلمية، فقد توصلت الدراسة إلى جملة من النتائج والتوصيات، أهمها:

            1- إن مجمل الإحصاءات التي تمت الإشارة إليها في هذه الدراسة تشير بعمومها إلى أن 60% ممن درسوا في الولايات المتحدة خلال العقـود الثلاثة الأخيرة لم يعودوا إلى بلادهـم الأصلية، وأن 50% ممن درسوا فى فرنسا لم يعودوا إلى بلدانهم الأصلية، وأن ما يقرب من (750) سبعمائة وخمسين ألف شخص من ذوي الكفاءات والخبرة العلمية قد هاجروا من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة في العقدين الماضيين فقط، ومن المتوقع أن تتزايد ظاهرة هجرة العقول إلى تلك الدول المتقدمة في المستقبل القريب، نتيجة لنظام العولمة والقوى المحركة لها، التي تريد أن تكرس العقول والكفاءات المبدعة في سوق عالمية واحدة.

            2- حددت الدراسة الدوافع الاقتصادية التي تقف وراء ظاهرة هجرة الكفاءات بعدة أسباب، أبرزها: عدم توفر فرص العمل المناسبة لهم ولمستواهم العلمي والمهني، وكذلك انخفاض مستوى الدخل وتدني مستوى المعيشة في البلدان الأصلية، في مقابل ارتفاع مستوى الدخل وتوفير الحياة الرغيدة في بلدان المهجر، ومن تلك الأسباب الإحباط العلمي والمهني للباحثين من أصحاب الكفاءات العلمية بسبب عدم توفر إمكانات وأدوات البحث العلمي من الكتب والمجلات والمعدات والأجهزة والبنيان المؤسسي للبحث العلمي، [ ص: 208 ] وكذلك تدني نسبة الإنفاق على البحث والدراسات الأكاديمية من مجمل الناتج القومي، وأن من أشكال الإحباط النفسي أن يكون الأقل منه كفاءة وعلما وخبرة هو المسؤول عن تسيير دفة العمل في المؤسسات التنموية والاستثمارية، وهو المسؤول عن برامج التخطيط في المراكز العلمية مثل الجامعات ومراكز الأبحاث وغيرها.

            3- إن ارتباط جميع دول العالم وبخاصة دول العالم الثالث والتي منها الدول العربية والإسلامية بمنظومة النظام الاقتصادي الرأسمالي أدى إلى خلق علاقة تخلف وتبعية من قبل دول العالم الثالث للدول الصناعية المتقدمة، حيث أصبح الوصول إلى الدول المتقـدمة حلم كثير من أبناء الدول النامية، لما تحمله من مزايا فردية للمهاجر تجعله متميزا عن أقرانه في وطنه الأصلي، ونتيجة لذلك حصلت عمليات إغراء وسرقة متعمدة من قبل بعض المراكز المتخصصة في دول المهجر لاستقطاب خيرة الكفاءات العلمية في بلدان العالم الثالث، ومنها العديد من الدول العربية والإسلامية.

            4- إن أبرز الأسباب الاجتماعية لهجرة الكفاءات العلمية هي انتشار الأمية العلمية بين المجتمعات التي يعيشون فيها، المتمثلة في عدم تقدير الكفاءات العلمية وعدم الاهتمام بأصحابها، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالغربة وهم في أوطانهم، وكذلك ضعف الانتماء الوطني لحضارة البلد الأصلي بسبب تأثير الحضارة الغربية السائدة أو بسبب الضغوط التي يتعرضون لها عرقيا أو مذهبيا أو دينيا، مما يؤثر سلبا على تماسك العلاقات الاجتماعية في البلدان الأصلية، فيدفعهم ذلك إلى التفكير بالهجرة. [ ص: 209 ]

            5- حددت الدراسة بعض الأسباب السياسية لهجرة الكفاءات العلمية، من أبرزها القمع والاضطهاد وعدم الاستقرار السياسي، وكبت الحريات الفكرية، كما تعتبر المحسوبية أسوأ وأخطر أنواع الفساد الإداري والسياسي، الأمر الذي يؤدي إلى استبعاد الكفاءات العلمية والمهنية من مركز القرار، الأمر الذي يدفع تلك الكفاءات للبحث عن دور لها في بلاد المهجر، وقد كان الاستقطاب الطائفي والتوظيف السياسي له أحد الأسباب التي أدت إلى هجرة تلك الكفاءات، بسبب غياب الهوية الوطنية وبسبب سياسة الإقصاء والتهميش لأبناء المجتمع بناء على خلفيتهم المذهبية والطائفية، الأمر الذي دفع تلك الكفاءات إلى ترك الوطن الأصلي والبحث عن حياة جديدة في وطن المهجر.

            6- ترى الدراسة أن من المنطقي النظر إلى هجرة الكفاءات نظرة موضوعية، باعتبارها تحمل بعضا من الجوانب الإيجابية ولم تعد جميع جوانبها سلبية ومؤذية، وبناء على ذلك فإن هجرة الكفاءات العلمية رغم خطورتها على حاضر ومستقبل الأمم، فإنها لا تخلو من بعض الآثار الإيجابية، منها تنمية العنصر البشري علميا ومهنيا، والإفادة من عوائد التحويلات المالية من بلاد المهجر إلى الوطن الأصلي، والمساهمة في الحد من مشكلة البطالة، وكذلك المساهمة في التقدم الصناعي والتكنولوجي للبلد الأصلي، وتحقيق التفاعل الحضاري بين الأمم والحضارات، إذ يمكن للبلدان الأصلية أن تفيد من هذا الرصيد المهاجر من الكفاءات العلمية للارتقاء بواقع البلدان الأصلية، والإفادة من مواقعهم العلمية ومراكزهم البحثية، لتكون ميادين خبرة ودراية تصب نتائجها في العالم الإسلامي وتساهم بنهضته. [ ص: 210 ]

            7- من أبرز النتائج السلبية لهجرة الكفاءات العلمية أنها تمثل عملية استنزاف للعقول المتميزة، كما أنها تمثل خسارة في مجال التعليم، وخسائر اقتصادية فادحة للبلدان الأصلية، وتعمل على توسيع الهوة بين الدول الغنية والفقيرة، وتكريس فكرة التبعية للبلدان المتقدمة، وتبديد الموارد البشرية، الأمر الذي يوصل إلى ضعف وتدهور الإنتاج العلمي والبحثي في البلدان الأصلية، بالمقارنة مع الإنتاج العلمي والبحثي في دول المهجر، مما يعني بالنتيجة ضياع الجهود والطاقات الإنتاجية والعلمية لهذه العقول، التي تصب في شرايين البلدان الغربية، بينما تحتاج التنمية الوطنية لمثل هذه العقول في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والتخطيط والبحث العلمي في بلدانها الأصلية.

            8- توصي الدراسة بالعمل على معالجة ظاهرة هجرة الكفاءات للحد من هجرة العقول البشرية، من خلال تقديم برامج دقيقة متعلقة بسياسة التوظيف في مؤسسات الدولة، من حيث الأجور والمرتبات المجزية لتحقيق الكفاية الاقتصادية، واختيار المكان المناسب لتلك الكفاءات العلمية، بما يتفق مع مؤهلاتهم وإمكاناتهم، وتوفير المناخ السياسي الذي يمنحهم المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار، والعمل على نشر ثقافة الولاء الوطني والابتعاد عن الولاءات الضيقة حزبيا أو عرقيا أو مذهبيا، وإعداد خطة منهجية لتطوير مناهج التعليم، بما يتناسب مع حاجة المجتمع المحلي للاختصاصات المختلفة، وتفعيل دور الشباب في حرية إبداء آرائهم وأفكارهم من خلال المنتديات والمراكز الثقافية والشبابية، وتشجيع الشركات والمؤسسات الخاصة للمشاركة في تمويل البحوث العلمية والإفادة منها، وتوفير أدوات وأجهزة البحث العلمي من قبل الجامعات العلمية للباحثين، وعقد المؤتمرات والندوات وورش العمل [ ص: 211 ] العلمية التي لها ارتباط بالواقع الصناعي والاقتصادي والعلمي، من أجل إحداث احتكاك علمي بين الخبرات المحلية والعالمية، وصولا إلى الإبداع والابتكار، ووصولا إلى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، مع عدم التفريق بين أجور الخبراء المحليين من أبنـاء البلد وبين الخبراء الأجانب، مادامت المؤهلات متساوية والخبرات متوافقة.

            9- توصي الدراسة بضرورة إقرار استراتيجية عربية وإسلامية تعمل على وضع ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية على جدول أعمال اجتماعات جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، من خلال مؤسساتها ووحداتها المختلفة، من أجل رصد إحصاءاتها الدقيقة والتنبيه إلى خطورتها، وتقديمها إلى اجتماعات القمة عربيا وإسلاميا، ووضع برامج عملية لمعالجتها، وتبني مشروعات طموحة تدعو من خلالها هؤلاء العلماء الموجودين بالخارج إلى العودة إلى بلدانهم الأصلية والإسهام في بناء نهضتها وتطورها العلمي والتقني، باعتبارها قضية من قضايا الأمن القومي؛ لأن تفريغ أي أمة من عقولها يعني تركها أمة خاملة وتابعة وغير قادرة على الابتكار.

            10- توصي الدراسة بضرورة تبني المواهب العلمية المختلفة، وعدم إهمال المخترعات التقنية التي يتقدم بها أعداد من الطلبة والباحثين العرب والمسلمين إلى الجامعات ومراكز البحث العلمي، دون أن تجد طريقها للتنفيذ والمتابعة، حيث يتحمل مسؤولية هذه المهمة كل من الدولة والقطاع الخاص على حد سواء، من أجل تبني المخترعات العلمية التي تساعد على تطوير المنتج الصناعي كما يحدث في الدول المتقدمة. [ ص: 212 ]

            11- توصي الدراسة بضرورة رعاية الجامعات العربية والإسلامية للعلماء والخبراء المنتسبين إليها، والحرص عليهم وتوفير كل السبل التي تتيح لهم الابتكار والإبداع، والعمل على تقديرهم ماديا أو أدبيا -بدلا من الوقوف بوجه طموحاتهم العلمية والمهنية-والتوسع في إنشاء الأكاديميات التكنولوجية والبحثية، لإتاحة الفرصة لهذه الكفاءات أن تمارس دورها العلمي والقيادي في نهضة الأمة وتقدمها.

            وأخيرا، فإن هجرة العقول -كما أشرنا- سنة كونية من سنن الله الطبيعية، إذا ما أحسن استثمارها وتوظيفها لكانت خيرا وبركة على الأمة، ولكانت كسبا حضاريا وعلميا وتقنيا يسهم في تقدم الأمة وازدهارها، وزيادة تجاربها وتواصلها ماديا ومعنويا، وبالعكس تماما إذا ما أسيء استخدامها فإنها ستكون عامل تقويض وضعف للأمة.

            وإن ما تـم ذكره أو الإشارة إليه في هذه الدراسة لا يمثل الرؤية الشاملة الكاملة لظاهرة هجرة الكفاءات العلمية، وإنما هي مجموعة أفكار وإشارات ونوافـذ يتم من خلالها النظر والتفـكير في أبعاد هذه الظاهرة، تم الاعتماد فيها على مجموعة من الأرقام والإحصاءات، لتكون جهدا مضافا ومكملا لجهد السابقين في هذا المجال، فإن كان صوابا فهو ما وفقني الله إليه، وإن كان غير ذلك فحسبي أنني لم آل جهدا في مراجعة هذا الموضوع ودراسة أبرز جوانبه وأبعاده الاقتصادية، للوقوف على أبرز أسبابه وآثاره وبعض من معالجاته.

            والله من وراء القصد.

            حسبي أنني اجتهدت، ومن الله التوفيق. [ ص: 213 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية