الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            أولا: الأصولية المنهجية الكلية في استيعاب المخالف:

            نقصد بهذه الأصول المرتكزات المنهجية الكلية الشرعية، التي تشكل الإطار العام الشرطي الناظم للنظر العلمي الحضاري للشريعة عموما ولقضية الاستيعاب الحضاري للمخالف خصوصا، وهي كليات تم استقراؤها من مختلف جزئيات موضوعها، نقترحها مدخلا منهجيا شرطيا للعطاء الحضاري للكفاءات المهاجرة.

            1- التوظيف الحضاري لهجرة الكفاءات:

            إذا كانت الهجرة سنة كونية مطردة في المجتمعات البشرية على اختلاف أسبابها ودواعيها، فإنها ارتبطت في السياق الحضاري الإسلامي بمعاني الشهود الحضاري، فلم تكن الهجرة النبوية وقبلها هجرة الصحابة إلى الحبشة [ ص: 55 ] مجرد لحظة اضطهاد انتقل بموجبها النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه من وطنهم الأصلي إلى وطن آخر انفلاتا من بيئة القهر والاضطهاد بقدر ما كانت فرصة أخرى لاستئناف العمل الدعوي والشهادة على الناس بالقسط، لذلك كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة لحظة فارقة في تاريخ الدعوة الإسلامية بين مرحلة الاستضعاف ومرحلة التمكين، بفضل حسن الاستثمار النبوي للوجود الاجتماعي والثقافي والسياسي الجديد في المدينة المنورة (يثرب) أخذا وعطاء وبناء وتوجيها.

            وتأسيسا لهذا المعنى الحضاري والتفاعل الإيجابي للمهاجرين في أرض الهجرة نـزل القرآن الكريم مواكبا وموجها للوجود الجديد للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ومنوها بحسن التفاعل والتواصل بين المهاجرين ومواطني البلد المستقبل من الأنصار، فقال سبحانه: ( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم ) (الأنفال:74).

            فكانت الهجرة - بما هي تفاعل إيجابي مع الواقع الجديد- عملا شرعيا جليلا من الأعمال التي ترتب عليها وعد المغفرة والرزق الكريم في الآية السابقة، بل ارتفع الاعتبار الشرعي للتوظيف الدعوي والحضاري للهجرة في المدينة إلى أعلى الدرجات في قوله تعالى: ( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ) (التوبة:20). [ ص: 56 ]

            ولما تعينت الهجرة زمن التنـزيل وسيلة الانتقال من واقع الاستضعاف والحصار إلى واقع التمكين والحرية، نـزل القرآن الكريم يحدد الهجرة معيار الولاء والبراء، كما في قوله تعالى: ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) (الأنفال:72).

            ويؤسس القرآن الكريم علاقة المسلم بمحيطه الاجتماعي في أي مكان على مبدأ التفاعل الإيجابي والتواصل الحضاري، وينهاه عن لزوم حالة الاستضعاف السلبية إلا في حالة العجز، فنـزل من القرآن ما يوجه اللوم لمن اختار السلبية في المكان [1] ونأى بنفسه عن دفع حالة الاستضعاف بالهجرة، فقال تعالى: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) (النساء:97)، أما حين يمـكن التفاعل الدعوي الإيجابي في المكان فذلك هو المطلوب، لذلك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عن انتهاء موجب الهجرة بعد فتح مكة، حيث قال: ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) [ ص: 57 ] [2] .

            فلما تقررت الهجرة في الشريعة، كتابا وسنة، وسيلة دعوية ولونا من ألوان الجهاد للمهاجرين من المسلمين في كل مكان وزمان، ألفينا المسلمين سلفا وخلفا يسيحون في الأرض شرقا وغربا، ويتخذون أوطانا مختلفة مقر سكنهم وموطن عيشهم يبلغون فيه دعوة الله أصالة، ويبتغون من فضل الله تبعا، فمشوا في الناس بأخلاق الإيمان وبثوا فيهم علوم الإسلام، فدخل في دين الله من الناس أفواج، وفتحت للإسلام أوطان.

            فكان من نتائج التفاعل الإيجابي للمسلمين المهاجرين مع محيطهم الاجتماعي، الذي احتضنهم انتشار الثقافة الإسلامية وسيادة حضارة الإسـلام في تلك الأوطـان من بلدان آسيا وإفريقيا وأوربا، عمدتهم في ذلك مخالقة الناس بخلق حسن، مصـداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وخالق الناس بخلق حسن ) [3] .

            ولما أصبح وجود المسلمين في مختلف مجتمعات العالم وخصوصا منها المجتمعات الغربية قدرا مقدورا يتميز بالنمو المطرد، كما ونوعا، تعين عليهم جميعا وعلى النخبة منهم بوجه أخص من أهل العلم والفكر والخبرة من المسلمين أن يتفاعلوا مع محيطهم بمقتضى واجب الدعوة بالتي هي أحسن [ ص: 58 ] كل من موقعه ومن منطلق ما يحسنه، قدوتهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وسلف الأمة وخلفها ممن هاجر وجاهد، دعوة وتعليما وخدمة وإفادة.

            2- التصرف بمقتضى النظر المقاصدي تأصيلا وتنـزيلا:

            نقصد بالنظر المقاصدي الاجتهاد الذي يستثمر مقاصد الشريعة في الإجابة عن قضايا العصر تشريعا, وتوجيه الفعل الإنساني تسديدا، وهو النظر الذي يمكن صاحبه من إدراك المقصد الشرعي من تشريع الأحكام، من أجل العمل على موافقته جلبا للمصلحة وتفادي مخالفته دفعا للمفسدة.

            وموجب القول بهذا النظر في موضوع العطاء الحضاري للكفاءات المهاجرة من المسلمين وسواه من القضايا، التي تستند إلى الشريعة، مقتضى طبيعة الخطاب الشرعي، الذي تتجمع فيه المقاصد والمعاني، والقوالب والمباني، ومقتضى واقع الكفاءات المهاجرة المعقد التركيب الذي يتعين على المسلمين تلمس أوجه المصلحة الشرعية بين تضاريس ذلكم الواقع لجلبها، وإدراك مظاهر الفساد لدرئه حسب الوسع الفردي أو الجماعي، وهو واقع تتحكم فيه نظم وثقافات غير ما هو معهود في المجتمعات الإسلامية.

            لذلك تعـين على الكفـاءات المهـاجرة لكي تتفاعل إيجابيا مع واقعها الجديد أن يكون نظرها مقاصديا يجمع بين النظر في النصوص الشرعية من مداخلها المعتبرة والنظر في الواقع العيني المتحرك من مداركه المعتمدة، وهذا ما يقتضي تأسيس منهج النظر عند هذه النخبة من المسلمين على ما يلي: [ ص: 59 ]

            - الجمع بين النظر الكلي والنظر الجزئي في فهم الخطاب الشرعي:

            فلما قام بنيان الشريعة على كليات مجملة قصدت الشريعة الحفاظ عليها, وعلى الأدلة التفصيلية الجزئية التي انتظمت منها تلك الكليات مبثوثة في أبواب الشريعة ومستغرقة لفروع وجزئيات كلياتها، لزم لمن رام فهم مراد الله من شرعه ألا يستقل نظره في جزئيات الشريعة التفصيلية عن نظره في كلياتها، التي تندرج تحتها تلك الجزئيات، وإلا تناقضت عليه الشريعة، والتناقض في الشريعة محال.

            وتقريرا لهذا الترابط بين النظرين يقول الشاطبي: "فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجمـاع والقياس، إذ محـال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها, فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليه فقد أخطأ, وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ, كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه" [4] .

            وعليه، فالجمع بين النظر الكلي والجزئي في معالجة النص الشرعي يمكننا من المحافظة على مقصود الشارع من جهة, ويقينا من الزلل وسوء التأويل من جهة ثانية [5] . [ ص: 60 ]

            - الجمع بين الاقتضاءين الأصلي والتبعي للنص الشرعي:

            إذا كان الاجتهاد في اقتناص الأحكام من مداركها الشرعية، حسب مقتضاها الأصلي، لا يستقيم إلا بالاستناد إلى المقصد الشرعي ضبطا وتوجيها، فإن الاجتهاد في تنـزيل تلك الأحكام على مناطاتها العينية زمانا ومكانا وحالا وشخصا وفق مقتضاها التبعي يتوقف قطعا على اعتماد المقصد الشرعي معيارا مسددا وضابطا موجها في تحقيق مناطات الأحكام ومراعاة مآلات الأفعال.

            فالواجب معرفة أن طريقة اقتضاء الأدلة الشرعية لأحكامها نوعان:

            اقتضاء أصلي: وهو تقرير الحكم على المناط العام على الإطلاق والكلية مجردا عن التوابع والحالات الخصوصية، وتجري هذه الأحكام بهذا المقتضى في المكلفين مجرى العموم في الأفراد، فيكون كل حكم شرعي كليا عاما يندرج فيه كل أفراد الأشخاص والأفعال والأحداث، دون تخصيصه ببعض من ذلك دون بعض إلا إذا دل الدليل على التخصيص، قال الشاطبي في تقرير هذا الاقتضاء: "الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر" [6] ، وهذا ما يؤسس للمبدأ العقدي في خلود الشريعة وثباتها وعمومها للإنسان والزمان والمكان. [ ص: 61 ]

            اقتضاء تبعي: وهو تقرير الأحكام على مناط الأعيان، وذلك باعتبار التوابع والإضافات ورعي العوائد والخصوصيات [7] ، لأن "الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنـزيل على المناط المعين" [8] ، ومعرفة المناط المعين لتنـزيل الحكم الشرعي الذي يلائمه، مسألة اجتهادية متجددة ومستمرة في الزمن، لأن "كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها" [9] ، كما أن "لكل خاص خصوصية تليق به لا تليق بغيره ولو في نفس التعيين" [10] .

            لذلك كله اقتضى فقه التنـزيل، تحقيقا لمقصد الشارع، النظر إلى الحكم الشرعي من خلال ثنائية الأصلي والتبعي، جمعا بين الحكم الشرعي في مناطه المجرد وبين صور المناطات المتجددة في الواقع المتحرك، إذ بذلك يستطيع القوم بناء اختياراتهم الحضارية ومشاريعهم في التواصل الاجتماعي على فقه الموازنة بين المصالح في مختلف مراتبها، والمفاسد في مختلف دركاتها عند التزاحم، وبين المصالح والمفاسد عند التعارض.

            فإذا ما تبين أن الحكم المرشح للتنـزيل يحقق المقصد الشرعي من جلب مصلحة أو دفع مفسـدة أجيز، وإلا استبـدل بغيره المحقق للمقصد، [ ص: 62 ] أو يؤجل إلى حـين توفر شروط تحقـق المقصد، تماما كما فعل الخليفة عمر رضي الله عنه ، حين أجل إقامة حد السرقة عام الرمادة، وسهم المؤلفة قلوبهم لعدم إمكان تحقق المقصد الشرعي من التنـزيل زمنئذ، أو يعدل الحكم تقييدا أو تخصيصا أو استثناء.

            - التمييز بين الوسائل والمقاصد:

            من شأن التمييز بين الوسيلة ومقصدها أن يعين على اختيار الحكم الملائم للواقعة محل الحكم ، فلا بد من التمييز بين وسيلة إلى ما هو مقصود في نفسه، كتعريف التوحيد، وصفات الإله، وما هو وسيلة إلى وسيلة كتعليم أحكام الشرع؛ فإنه وسيلة إلى العلم بالأحكام التي هي وسيلة إلى إقامة الطاعات، التي هي وسائل إلى المثوبة والرضوان، وكلاهما من أفضل المقاصد [11] .

            ومن معايير التمييز بين القضيتين نسبية الوسائل من حيث كونها وسيلة باعتبار ومقصد باعتبار آخر، قال الشاطبي: "والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها" [12] كالحفاظ على المال فهو وسيلة إلى الحفاظ على الكليات الأخرى، وهو مقصد يتوسل إليه بالعمل والاستثمار بشتى الطرق المشروعة.

            إن اعتبار الوسيلة مشروط بعدم عودها على المقصد بالإبطال، وبطلان الوسيلة لا يلزم منه بطلان المقصد، فالوسائل دون المقاصد رتبة، يشهد [ ص: 63 ] لذلك قول العلماء: "مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسائل أبدا"، وقولهم: "التابع لا يتقدم المتبوع كالإمام مع المأموم".

            فتمييز أهل الكفاءة في المهجر بين المصالح الشرعية المطلوب اجتلابها والوسائل المتعينة في الزمان والمكان والحال لتحقيق تلك المصالح، وكذلك التمييز بين المفاسد الواجب استدفاعها والوسائل المفضية إليها معين لهم على التمسك بالثابت من معاني الشريعة ومقاصدها، والاجتهاد في ابتكار أفضل الوسائل المؤدية إلى تحقيق المقاصد الشرعية للوجود الإسلامي في المجتمعات الغربية.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية