الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وفيه دليل أنه لا بأس بشرب نبيذ الزبيب إذا كان مطبوخا ، وإن كان مشتدا ، فإن عمر رضي الله عنه قد شرب منه بعد ما صب عليه الماء ، وسقى أصحابه ، ثم لم يبين أن الأعرابي أذن له في الشرب من إداوته ، ولكن الظاهر أنه شرب ذلك بإذنه حتى روي أنه قال أتضربني فيما شربته ، فقال عمر رضي الله عنه إنما حددتك لسكرك ، فهو دليل أنه إذا سكر من النبيذ الذي يجوز شرب القليل منه يلزمه الحد ، وعن حماد رضي الله عنه قال دخلت على إبراهيم رحمه الله ، وهو يتغذى ، فدعا بنبيذ ، فشرب ، وسقاني ، فرأى في الكراهة ، فحدثني عن علقمة رحمه الله أنه كان يدخل على عبد الله بن مسعود [ ص: 12 ] رضي الله عنه ، فيتغدى عنده ، ويشرب عنده النبيذ يعني نبيذ الجر وقد روي أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يعتاد شربه حتى ذكر عن أبي عبيدة أنه أراهم الجر الأخضر الذي كان ينبذ فيه لابن مسعود رضي الله عنه ، وعن نعيم بن حماد رضي الله عنه قال كنا عند يحيى بن سعيد القطان رحمه الله ، وكان يحدثنا بحرمة النبيذ ، فجاء أبو بكر بن عياش رحمه الله ، فقال اسكت يا صبي حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة رحمه الله أنه شرب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نبيذا مشتدا صلبا ، وكذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه نبيذا مشتدا كان يعتاد شربه ، وقد روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال سقاني علي رضي الله عنه نبيذا ، فلما رأى ما بي من التغير بعث معي قنبرا يهديني ، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليا رضي الله عنه قال إن القوم ليجتمعون على الشراب ، وهو لهم حلال ، فلا يزالون يشربون حتى يحرم عليهم يعني إذا بلغوا حد السكر .

وكذلك عمر رضي الله عنه كان يشرب المثلث ، ويأمر باتخاذه للناس حتى روي عن داود بن أبي هند قال : قلت لسعيد بن المسيب الطلاء الذي يأمر عمر رضي الله عنه باتخاذه للناس ، ويسقيهم منه كيف كان قال كان يطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ، ويبقى ثلثه ، والمراد أنه كان يسقيهم بعد ما يشتد لما ذكر عن عمر رضي الله عنه قال : إنا ننحر جزورا للمسلمين ، والعنق منها لآل عمر ، ثم يشرب عليه من هذا النبيذ ، فيقطعه في بطوننا ، ولكثرة ما روي من الآثار في إباحة شرب المثلث ذكر أبو حنيفة رحمه الله فيما عد من خصال مذهب أهل السنة ، وأن لا يحرم نبيذ الجر ، وعن بعض السلف قال : لأن أخر من السماء ، فأنقطع نصفين أحب إلي من أن أحرم نبيذ الجر ، وإنما قال ذلك لما في التحريم من رد الآثار المشهورة ، وإساءة القول في الكبار من الصحابة رضي الله عنهم ، وذلك لا يحل ، فأما مع الإباحة ، فقد لا يعجب المرء الإصابة من بعض المباحات للاحتياط ، أو لأنه لا يوافق طبعه ، وهذه الرخصة تثبت بعد التحريم ، فقد كانوا في الابتداء نهوا عن ذلك كله لتحقيق الزجر هكذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : شهدت تحريمه كما شهدتم ، ثم شهدت تحليله ، فحفظت ذلك ، ونسيتم .

فبهذا تبين أن ما يروى من الآثار في حرمته قد انتسخ بالرخصة فيه بعد الحرمة ، وعن إبراهيم رحمه الله قال : إنما كره التمر ، والزبيب لشدة الغش في ذلك الزمان كما كره اللحم ، والتمر ، وكما كره أن يقرن الرجل بين التمرتين ، فأما اليوم ، فلا بأس به ، وهذا منه بيان تأويل النهي عن شراب الخليطين ، وأنه لا بأس به اليوم ، وعن إبراهيم قال : قول الناس ما أسكر كثيره [ ص: 13 ] فقليله حرام خطأ منهم ، إنما أراد السكر حرام ، فأخطئوا ، وسنبين تأويل هذا اللفظ بعد هذا ، وعن علي بن الحسين رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك ، فمر بقوم يزفتون ، فقال ما هؤلاء ، فقيل : أصابوا من شراب لهم ، فنهاهم أن يشربوا في الدباء ، والحنتم ، والمزفت ، فلما مر بهم راجعا من غزاتهم شكوا إليه ما لقوا من التخمة ، فأذن لهم أن يشربوا منها ، ونهاهم عن المسكر } ، وفيه دليل أن الرخصة كانت بعد النهي ، وأنه عليه الصلاة والسلام نهاهم في الابتداء لتحقق الزجر عن شرب المسكر ، ثم أذن لهم في شرب القليل منه بعد أن لا يبلغوا حد المسكر ، والزبيب المعتق إذا لم يطبخ ، فلا بأس بشربه مما لم يغل ، فإذا غلا ، واشتد ، فلا خير فيه ، والكلام هنا في فصول أحدها في الخمر ، وقد بيناه .

وإنما بقي الكلام فيه في ، فصل واحد ، وهو أن عند أبي حنيفة : العصير ، وإن أشتد ، فلا بأس بشربه ما لم يغل ، ويقذف بالزبد ، فإذا غلا ، وقذف بالزبد ، فهو خمر حينئذ ، وقال أبو يوسف ، ومحمد - رحمهما الله - إذا اشتد ، فهو خمر ; لأن صفة الخمرية فيه لكونه مسكرا مخامرا للعقل ، وذلك باعتبار صفة الشدة فيه يوضحه أن حرمة الخمر لما في شربها من إيقاع العداوة ، والصد عن ذكر الله تعالى ، وذلك باعتبار اللذة المطربة ، والقوة المسكرة فيها ، فأما بالغليان ، والقذف بالزبد ، فيرق ، ويصفو ، ولا تأثير لذلك في إحداث السكر ، فبعدما صار مشتدا ، فهو خمر سواء غلا ، وقذف بالزبد ، أو لم يغل : يوضحه أنه قد يحتال بإلقاء شيء عليه ، ويحتال للمنع من الغليان حتى لا يكون له غليان ، ولا قذف بالزبد أصلا ، ولكنه لا بد من أن يشتد ليكون مسكرا ، فعرفنا أن المعتبر فيه الشدة ولأبي حنيفة رحمه الله أن المسكر صفة العصير ، وهو أصل لما يعصر من العنب ، وما بقي أثر من آثار الأصل ، فالحكم له .

( ألا ترى ) أن مع بقاء واحد من أصحاب الحطة في المحلة لا يعتبر السكان .

، ثم حكم الصحة ، والحد لا يمكن إثباته بالرأي ، ولكن طريق معرفته النص والنص إنما ، ورد بتحريم الخمر ، والخمر مغاير للعصير ، ولا تتم المغايرة مع بقاء شيء من آثار العصير ، وقد كان الحل ثابتا فيه ، وما عرف ثبوته بيقين لا يزال إلا بيقين مثله ، وذلك بعد الغليان ، والقذف بالزبد ، والأصل في الحدود اعتبار نهاية الكمال في سببها كحد الزنا ، والسرقة لا يجب إلا بعد كمال الفعل اسما ، وصورة ، ومعنى من كل وجه لما في النقصان من شبهة العدم ، والحدود تندرئ بالشبهات ، فلهذا استقصى أبو حنيفة رحمه الله ، وقال : لا تتوفر أحكام الخمر على العصير بمجرد الشدة إلا بعد الغليان ، والقذف بالزبد . .

التالي السابق


الخدمات العلمية