الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
، ثم الحاصل أن السفه لا يجعل كالهزل في جميع التصرفات ، ولا كالصبا ، ولا كالمرض ، ولكن الحجر به لمعنى النظر له فالمعتبر فيه توفر النظر عليه ، وبحثه يلحق ببعض هذه الأصول [ ص: 169 ] في كل حادثة ، فإن جاءت جاريته بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه ، والجارية أم ولد له ، فإن مات كانت حرة لا سبيل عليها ; لأن توفر النظر في إلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاد ، فإنه محتاج إلى ذلك لإبقاء نسله ، وصيانة مائه ، ويلحق في هذا الحكم بالمريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته كان هو في ذلك كالصحيح حتى أنها تعتق من جميع ماله بموته ، ولا تسعى هي ، ولا ولدها في شيء ; لأن حقه مقدم على حق غرمائه بخلاف ما لو أعتقها ، ولو لم يكن معها ولد ، وقال هذه أم ولد كانت بمنزلة أم الولد يقدر على بيعها ، فإن مات سعت في جميع قيمتها بمنزلة المريض إذا قال لجاريته وليس معها ولد : هذه أم ولدي ، وهذا ; لأنه إذا كان معها ولد ، فثبوت نسب الولد بمنزلة الشاهد لها في إبطال حق الغير فكذلك في دفع حكم الحجر عن تصرفه بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد ، فإنه لا شاهد له هنا فإقراره لها بحق العتق بمنزلة إقراره بحقيقة الحرية ، فلا يقدر على بيعها بعد ذلك ، ويسعى في قيمتها بعد موته كما لو أعتقها ، ولو كان له عبد لم يولد في ملكه ، فقال : هذا ابني ، ومثله يولد لمثله فهو ابنه يعتق ، ويسعى في قيمته ; لأنه أصل العلوق ، ولما لم يكن في ملكه كانت دعواه دعوى تحرير ، فيكون كالإعتاق .

( ألا ترى ) أن المريض المديون إذا قال لعبد لم يولد في ملكه هذا ابني عتق ، وسعى في قيمته ، ولو اشترى هذا المحجور عليه ابنه ، وهو معروف ، وقبضه كان شراؤه ، فاسدا ، ويعتق الغلام حين قبضه ، ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره ، فيثبت له الملك بالقبض ، ويعتق عليه ; لأنه ملك ابنه ثم يسعى في قيمته للبائع ولا يكون للبائع في مال المشتري شيء من ذلك ; لأنه ، وإن ملكه بالقبض فالتزام الثمن ، أو القيمة بالعقد منه غير صحيح لما في ذلك من الضرر عليه وهو في هذا الحكم ملحق بالصبي ، وإذا لم يجب على المحجور شيء لا يسلم له أيضا شيء من سعايته فتكون السعاية الواجبة على العبد للبائع ، ولو وهب له ابنه المعروف ، أو وهب له غلام ، فقبضه وادعى أنه ابنه ، فإنه يعتق ، ويلزمه السعاية في قيمته بمنزلة ما لو أعتقه .

( ألا ترى ) أن المريض المديون لو وهب له ابنه المعروف ، أو وهب له غلام في مرضه ، فادعى أنه ابنه ، ثم مات سعى الغلام في قيمته لغرمائه ولو أن هذا الذي بلغ مفسدا تزوج امرأة جاز نكاحه ، وينظر إلى ما تزوجها عليه ، وإلى مهر مثلها ، فيلزمه أقلهما ويبطل الفضل عن مهر مثلها مما سمى ، وهو في ذلك كالمريض المديون فإن التزوج من حوائجه ومن ضرورة صحة النكاح وجوب مقدار مهر المثل فأما الزيادة على ذلك فالتزام بالتسمية ، ولا نظر له في هذا الالتزام فلا تثبت هذه الزيادة كالمريض [ ص: 170 ] إذا تزوج امرأة بأكثر من صداق مثلها يلزمه من المسمى مقدار مهر مثلها فإذا طلقها قبل الدخول ، وجب لها نصف المهر في ماله ; لأن التسمية صحيحة في مقدار مهر المثل ، وتنصف المفروض بالطلاق قبل الدخول حكم ثابت بالنص .

وكذلك لو تزوج أربع نسوة ، أو تزوج كل يوم واحدة ، ثم طلقها ، وبهذا يحتج أبو حنيفة رحمه الله أنه لا فائدة في الحجر عليه ; لأنه لا ينسد باب إتلاف المال عليه ، وإنه يتلف ماله بهذا الطريق إذا أعجز عن إتلافه بطريق البيع ، والهبة ، وهو يكتسب المحمدة في البر والإحسان ، والمذمة في التزوج ، والطلاق قال : عليه الصلاة والسلام { لعن الله كل ذواق مطلاق } ، ولو حلف بالله أو نذر نذورا من هدي ، أو صدقة لم ينفذ له القاضي شيئا من ذلك ، ولم يدعه يكفر أيمانه بذلك ; لأنه حجره عن التصرف في ماله فيما يرجع إلى الإتلاف ، ولو لم يمنعه ذلك إذا ، أوجبه على نفسه لم يحصل المقصود بالحجر ; لأنه تيسر عليه النذر بالتصدق بجميع ماله ، ثم عليه أن يصوم لكل يمين حنث فيها ثلاثة أيام متتابعات ، وإن كان هو مالكا للمال ; لأن يده مقصورة عن ماله فهو بمنزلة ابن السبيل المنقطع عن ماله وبمنزلة من يكون ماله دينا على إنسان ، أو غصبا في يده ، وهو يأبى أن يعطيه ، فله أن يكفر بالصوم كذلك هنا .

ولو ظاهر هذا المفسد من امرأته صح ظهاره كما يصح طلاقه ، ويجزيه الصوم في ذلك لقصور يده عن ماله بمنزلة من كان ماله غائبا عنه ، فإن قيل : هناك لو كان في ماله عبد لم يجز له أن يكفر بالصوم قلنا ; لأن هناك يقدر على إعتاقه عن ظهاره ، وإن لم يكن في يده ، وهنا لا يقدر على ذلك ; لأنه لو أعتق عبده وجب على العبد السعاية في قيمته ، ومع وجوب السعاية عليه لا يجوز عتقه عن الظهار .

( ألا ترى ) أن مريضا مصلحا لو أعتق عبده عن ظهاره ، أو قتله وعليه دين مستغرق ، ثم مات سعى الغلام في قيمته ولم يجز عن الكفارة للسعاية التي وجبت فلهذا ، أوجبنا عليه صوم شهرين متتابعين في كفارة الظهار ، والقتل فإن قيل : كان ينبغي أن ينفذ إعتاقه من غير سعاية ; لأن هذا مما يتقرب به إلى ربه ويسقط به الواجب عن ذمته ، فالنظر له في تنفيذه قلنا لو فتح عليه هذا الباب لكان إذا شاء أن يعتق عبدا من عبيده ، وقيل : له إن عتقك لا يجوز إلا بالسعاية ظاهر من امرأته ، ثم أعتق بعد ذلك العبد ، أو حلف بيمين ، وحنث فيها ، ثم أعتق ذلك ، فيحصل له مقصوده من التبذير بهذا الطريق ; لأنه يصير بعد هذا العتق بمنزلة من لم يظاهر ، فلزجره عن هذا القصد ، أوجبنا السعاية على العبد إذا أعتقه ، وعينا عليه التكفير بالصوم ، فإن صام المفسد أحد الشهرين ، ثم صار مصلحا لم يجزه إلا العتق بمنزلة معسر أيسر ; لأنه كان معسرا ابتداء ، وقد وصلت يده إلى المال [ ص: 171 ] قبل سقوط الكفارة عنه بالصوم ، فعليه التكفير بالمال .

التالي السابق


الخدمات العلمية