الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل [ ص: 43 ] دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين

هذه دليل كفر الذي نزلت فيه هذه الآية التي قبلها. و"الوقر" في الأذن: الثقل الذي يعسر إدراك المسموعات، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث قيدت ونص عليها.

ولما ذكر عز وجل حال هؤلاء الكفرة وتوعدهم بالنار على أفعالهم عقب بذكر المؤمنين وما وعدهم به من جنات النعيم; ليتبين الفرق. و"وعد الله" منصوب على المصدر، و"حقا" مصدر مؤكد.

وقوله تعالى: بغير عمد ترونها يحتمل أن يعود الضمير على "السماء" فيكون المعنى: أن السماء بغير عمد، وأنها ترى كذلك، وهذا قول الحسن والناس، و"ترونها" - على هذا القول - في موضع نصب على الحال، ويحتمل أن يعود الضمير على "العمد" فيكون "ترونها" صفة للعمد في موضع خفض، ويكون المعنى: إن السماء لها عمد لكن غير مرئية، قاله مجاهد ، ونحا إليه ابن عباس رضي الله عنهما والمعنى الأول أصح، والجمهور عليه، ويجوز أن تكون "ترونها" في موضع رفع على القطع، ولا عمد ثم.

و"الرواسي" هي الجبال التي ثبتت في الأرض، وقوله: "أن تميد" بمعنى: ألا تميد، والميد: التحرك يمنة ويسرة وما قرب من ذلك. وقوله تعالى: من كل زوج أي: من كل نوع. والزوج في اللغة: النوع والصنف، وليس بالذي هو ضد الفرد، وقوله تعالى: "كريم" يحتمل أن يريد مدحه من جهة إتقان صنعته وظهور حسن الرتبة والتحكيم للصنع فيها، فيعم حينئذ جميع الأنواع; لأن هذا المعنى في كلها، ويحتمل أن يريد مدحه بكرم جوهره، وحسن منظره، ومما تقضي له النفوس بأنه أفضل من سواه حتى يستحق الكرم، فتكون الأزواج - على هذا - مخصوصة في نفائس الأشياء ومستحسناتها، ولما كان عظم الموجودات كذلك خصص الحجة بها.

وقوله: "أنبتنا" [ ص: 44 ] يعم أنواع الحيوان وأنواع النبات والمعادن.

ثم وقف تعالى الكفار - على جهة التوبيخ وإظهار الحجة - على أن هذه الأشياء هي مخلوقات الله تبارك وتعالى، ثم سألهم أن يوجدوا ما خلق الأصنام والأوثان وغيرهم ممن عبد، أي: أنهم لن يخلقوا شيئا، بل هذا الذي قريش فيه ضلال مبين، ثم ذكرهم بالصفة التي تعم معهم سواهم ممن فعل فعلهم من الأمم، وقوله: "ماذا" يجوز أن تكون "ما" استفهاما في موضع رفع بالابتداء، و"ذا" خبرها بمعنى "الذي"، والعائد محذوف، ويجوز أن تكون "ما" مفعولة بـ"أروني" و"ذا" صلة، و"ما" بمعنى "الذي"، والعائد محذوف، تقديره في الوجهين: خلقه.

التالي السابق


الخدمات العلمية