الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 479 ] قوله عز وجل:

فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون

وقوله تعالى: فلنذيقن الذين كفروا الفاء دخلت على لام القسم، وهي آية وعيد لقريش، و"العذاب الشديد" هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها، و"الجزاء بأسوإ أعمالهم" هو عذاب الآخرة.

وقوله تعالى: "ذلك" إشارة إلى الجزاء المتقدم، و"جزاء" خبر الابتداء، و"النار" بدل من قوله تعالى: "جزاء"، ويجوز أن يكون "ذلك" خبر ابتداء تقديره: الأمر ذلك، ويكون قوله تعالى: "جزاء" ابتداء، و"النار" خبره. وقوله تعالى: لهم فيها دار الخلد أي موضع البقاء ومسكن العذاب الدائم، فالظرفية فيه متمكنة على هذا التأويل، ويحتمل أن يكون المعنى: هي لهم دار الخلد، ففي قوله: "فيها" معنى التحديد، كما قال الشاعر:


وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل



[ ص: 480 ] وفي قراءة عبد الله بن مسعود : [ذلك جزاء أعداء الله النار دار الخلد]، وسقط: "لهم فيها"، وجحودهم بآيات الله مطرد في علاماته المنصوبة لخلقه، وفي آيات كتابه المنزلة على نبيه صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر عز وجل مقالة كفار يوم القيامة، إذا دخلوا النار، فإنهم يرون عظيم ما حل بهم وسوء منقلبهم، فتجول أفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم وبادي ضلالتهم، فيعظم غيظهم وحنقهم عليه، ويودون أن يحصل في أشد العذاب، فحينئذ يقولون: ربنا أرنا اللذين أضلانا ، وظاهر اللفظ يقتضي أن "الذي" في قولهم: [الذين] إنما هو للجنس، أي: أرنا كل مغو ومضل من الجن والإنس، وهذا قول جماعة من المفسرين، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتادة : وطلبوا ولد آدم الذي سن القتل والمعصية من البشر، وإبليس الأبالسة من الجن.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وتأمل هذا، هل يصح هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ لأن ولد آدم مؤمن عاص، وهؤلاء إنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود، وإنما القوي أنهم طلبوا النوعين، وقد أصلح بعضهم هذا القول بأن قال: يطلب ولد آدم كل عاص دخل النار من أهل الكبائر، ويطلب إبليس كل كافر، ولفظ الآية يزحم هذا التأويل; لأنه يقتضي أن الكفرة إنما طلبوا اللذين أضلا.

وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : "أرنا" بكسر الراء، وهي رؤية عين، ولذلك فهو فعل يتعدى إلى مفعولين، وقرأ ابن كثير ، وابن عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : "أرنا" بسكون الراء، فقال هشام بن عامر : هو خطأ، وقال أبو علي : هي مخففة من "أرنا" كما قالوا: ضحك وفخذ، وقرأ أبو عمرو بإشمام الراء الكسر، ورويت عن أهل مكة. وقولهم: نجعلهما تحت أقدامنا يريدون: في أسفل طبقة من النار، وهي أشد عذابا، وهي درك المنافقين.

وقوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا الآية. آية وعد للمؤمنين، [ ص: 481 ] قال سفيان بن عبد الله الثقفي: "قلت للنبي عليه الصلاة والسلام: أخبرني بأمر أعتصم به، فقال: قل ربي الله ثم استقم، قلت: فما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال: هذا".

واختلف الناس في مقتضى قوله تعالى: ثم استقاموا فذهب الحسن، وقتادة ، وجماعة إلى أن معناه: استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي. وتلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية على المنبر، ثم قال: استقاموا - والله - لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ذهب رضي الله عنه إلى حمل الناس على الأتم الأفضل، وإلا فيلزم - على هذا التأويل - من دليل خطابه ألا تتنزل الملائكة عند الموت على غير مستقيم على الطاعة، وذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجماعة معه إلى أن المعنى: ثم استقاموا على قولهم: "ربنا الله"، فلم يختل توحيدهم ولا اضطرب إيمانهم، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: "قد قالها الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها، فهو ممن استقام".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

المعنى: فهو في أول درجات الاستقامة، أمن الخلود، فهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، وهذا هو المعتقد إن شاء الله تعالى، وذلك أن العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وغيرها فرقتان: فأما من قضى الله تعالى بالمغفرة له وترك تعذيبه، فلا محالة ممن تتنزل عليه الملائكة بالبشارة، وهو إنما استقام على توحيده فقط، وأما من قضى الله بتعذيبه مدة، ثم بإدخاله الجنة، [ ص: 482 ] فلا محالة أنه يلقى جميع ذلك عند موته ويعلمه، وليس يصح أن يكون حاله كحالة الكافر اليائس من رحمة الله تعالى، وإذ قد كان هذا، فقد حصلت له البشارة بألا يخاف الخلود ولا يحزن منه، وبأنه يصير آخرا إلى الخلود في الجنة، وهل العصاة المؤمنون، إلا تحت الوعد بالجنة؟ فهم داخلون فيمن يقال لهم: وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، ومع هذا كله، فلا يختلف أن الموحد المستقيم على الطاعة، أتم حالا وأكمل بشارة، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلى نحو ذلك قال سفيان الثوري : "استقاموا": عملوا بنحو ما قالوا، وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله تعالى، وقال الفضل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وبالجملة فكلما كان المرء أشد استعدادا، كان أسرع فوزا بفضل الله تعالى.

وقوله تعالى: ألا تخافوا ولا تحزنوا أمنة عامة في كل هم مستأنف، وتسلية تامة عن كل فائت ماض، وقد قال مجاهد : المعنى: لا تخافون ما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: [تتنزل عليهم الملائكة لا تخافوا] بإسقاط الألف، بمعنى: يقولون لا تخافوا.

التالي السابق


الخدمات العلمية