الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 574 ] قوله عز وجل:

وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين

المعنى: كانت رسالته وقوله: أن أدوا وألا تعلوا، وعبر بالعلو عن الطغيان والعتو على الله تعالى وعلى شرعه وعلى رسوله، وقرأ الجمهور: "إني آتيكم" بكسر الألف من "إني" على الإخبار المؤكد، والسلطان: الحجة، فكأنه قال: لا تكفروا، فإن الدليل المؤدي إلى الإيمان بين. وقرأت فرقة: "أني آتيكم" بفتح الألف. و "أن" في موضع نصب، بمعنى: لا تكفروا من أجل أني آتيكم بسلطان مبين، فكأن مقصد الكلام التوبيخ، كما تقول لإنسان: لا تغضب، لأن الحق قيل لك.

وقوله: وإني عذت الآية، كلام قاله موسى عليه السلام لخوف لحقه من فرعون وملئه و "عذت": معناه: استجرت وتحرمت، وأدغم الذال في التاء الأعرج ، وأبو عمرو ، واختلف الناس في قوله: "أن ترجمون" فقال قتادة وغيره: أراد الرجم بالحجارة المؤدي إلى القتل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما، وأبو صالح : أراد الرجم بالقول من السباب والمخالفة ونحوه، والأول أظهر، لأنه أعيذ منه ولم يعذ من الآخر، بل قيل فيه عليه السلام وله، وقوله: تؤمنوا لي معناه: تؤمنوا بي، والمعنى: تصدقوا، وقوله: "فاعتزلون" متاركة صريحة. قال قتادة : أراد خلوا سبيلي.

وقوله تعالى: فدعا ربه قبله محذوف من الكلام، تقديره: فما كفوا عنه، بل تطرقوا إليه، وعتوا عليه وعلى دعوته فدعا ربه، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، وابن أبي إسحاق ، وعيسى : "إن هؤلاء" بكسر الألف من "إن"، على معنى: "قال إن"، وقرأ جمهور الناس، والحسن أيضا: "أن هؤلاء" بفتح الألف، والقراءتان حسنتان، وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس منهم، وهنا أيضا محذوف من الكلام تقديره: فقال الله تعالى له: فأسر بعبادي، وهذا هو الأمر الذي أنفذه الله تعالى إلى موسى عليه السلام بالخروج من ديار مصر ببني إسرائيل، وقد تقدم شرحه وقصصه في سورة الأنبياء عليهم السلام وغيرها، وقرأ جمهور الناس: "فاسر" موصولة الألف، وقرأ: "فأسر" بقطع الألف الحسن، [ ص: 575 ] وعيسى ، ورويت عن أبي عمرو ، وأعلمه تعالى بأنهم متبعون، أي: يتبعهم فرعون وجنوده.

واختلف المفسرون في قوله تعالى: واترك البحر رهوا ، متى قالها سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام ؟ فقالت فرقة: هو كلام متصل، إنكم متبعون واترك البحر إذا انفرق لك رهوا، وقال قتادة وغيره: خوطب عليه السلام به بعد ما جاز البحر وخشي أن يدخل فرعون وقومه وراءه، وأن يخرجوا من المسالك التي خرج منها بنو إسرائيل، فهم موسى عليه السلام بأن يضرب البحر عسى أن يلتئم ويرجع إلى حاله، فقيل له عند ذلك: واترك البحر رهوا .

واختلفت عبارة المفسرين في تفسير الرهو، فقال مجاهد ، وعكرمة : معناه: يبسا، من قوله تعالى: فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ، وقال الضحاك بن مزاحم : معناه: دمثا لينا. وقال عكرمة أيضا: جردا. وقال ابن زيد : سهلا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: ساكنا، أي: كما جزته، وهذا القول الأخير هو الذي تؤيده اللغة، فإن العيش الراهي هو الذي في خفض ودعة وسكون، حكاه المبرد وغيره، والرهو في اللغة هو هذا المعنى، ومنه قول عمير بن شييم القطامي:


يمشون رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل



فإنما معناه: يمشين اتئادا وسكونا وتماهلا، ومنه قول الآخر:

[ ص: 576 ]

............................ ...     أو أمة خرجت رهوا إلى عيد



أي: خرجوا في سكون وتماهل، فقيل لموسى عليه السلام: اترك البحر ساكنا على حاله من الافتراق ليقضي الله أمرا كان مفعولا، والرهو من أسماء الكركي الطائر، ولا مدخل له في تفسير هذه الآية، ويشبه عندي أن سمي رهوا لسكونه، وأنه أبدا على تماهل.

وقوله تعالى: كم تركوا الآية، قبله محذوف تقديره: فغرقوا وقطع الله دابرهم، ثم أخذ الله تعالى يعجب من كثرة ما تركوا من الأمور الرفيعة العظيمة في الدنيا، و "كم" خبر للتكثير، والجنات والعيون روي أنها كانت متصلة ضفتي النيل جميعا من رشيد إلى أسوان، وأما العيون فيحتمل أنه أراد الخلجان الخارجة من النيل فشبهها بالعيون، ويحتمل أنه كانت ثم عيون ونضبت، كما يعتري في كثير من بقاع الأرض، وقرأ قتادة ، ومحمد بن السميفع اليماني، ونافع -في رواية خارجة عنه-: "ومقام" بضم الميم، أي: موضع إقامة، وكذلك قرأ اليماني في كل القرآن إلا في مريم [ ص: 577 ] خير مقاما ، فكأن المعنى: كم تركوا من موضع حسن كريم في قدره ونفعه، وقرأ جمهور الناس، ونافع : "ومقام كريم" بفتح الميم، أي: موضع قيام، فعلى هذه القراءة قال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير : أراد المنابر، وعلى ضم الميم في: "مقام" قال قتادة : أراد المواضع الحسان من المساكن وغيرها، والقول بالمنابر بهي جدا.

و"النعمة" -بفتح النون-: غضارة العيش ولذاذة الحياة، و"النعمة" -بكسر النون-: أعم من هذا، لأن النعمة بالفتح هي من جملة النعم بالكسر، وقد تكون الأمراض والآلام والمصائب نعما، ولا يقال فيها نعمة بالفتح، وقرأ أبو رجاء : "ونعمة" بالنصب، وقرأ جمهور الناس: "فاكهين" بمعنى: ناعمين. والفاكه: الطيب النفس، أو يكون بمعنى: أصحاب فاكهة كلابن وتامر، وقرأ أبو رجاء ، والحسن -بخلاف عنه- وابن القعقاع: "فكهين"، ومعناه قريب من الأول، لكن الفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ، فكأنه ها هنا يقول: كانوا في هذه النعمة مستخفين بشكرها والمعرفة بحقها.

وقوله تعالى: كذلك وأورثناها معناه: الأمر كذلك، وسماه وراثة من حيث كانت أشياء أناس وصلت إلى قوم آخرين من بعد موت الأولين، وهذه حقيقة الميراث في اللغة، وربطها الشرع بالنسب وغيره من أسباب الميراث، و"الآخرون": من ملك مصر بعد القبط، وقال قتادة : القوم الآخرون هم بنو إسرائيل، وهذا ضعيف، لأنه لم يرو في التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ولا ملكوها قط، إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشام، وقد ذكر الثعلبي عن الحسن أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون.

التالي السابق


الخدمات العلمية