الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1428 (وقال بعض الناس: المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية؛ لأنه يقال: أركز المعدن إذا خرج منه شيء، قيل له: قد يقال لمن وهب له شيء أو ربح ربحا كثيرا أو كثر ثمره: أركزت. ثم ناقض، وقال: لا بأس أن يكتمه فلا يؤدي الخمس)

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قال ابن التين: المراد ببعض الناس هو أبو حنيفة.

                                                                                                                                                                                  (قلت): جزم ابن التين بأن المراد به هو أبو حنيفة، من أين أخذه؟! فلم لا يجوز أن يكون مراده هو سفيان الثوري من أهل الكوفة والأوزاعي من أهل الشام؟ فإنهما قالا مثل ما قال أبو حنيفة: "إن المعدن كالركاز".

                                                                                                                                                                                  وفيه الخمس في قليله وكثيره على ظاهر قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس" ولكن الظاهر أن ابن التين لما وقف على ما قاله البخاري في (تاريخه) في حق أبي حنيفة - مما لا ينبغي أن يذكر في حق أحد من أطراف الناس فضلا أن يقال في حق إمام هو أحد أركان الدين - صرح بأن المراد ببعض الناس أبو حنيفة، ولكن لا يرمى إلا شجر فيه ثمر، وهذا ابن بطال قال: ذهب أبو حنيفة والثوري وغيرهما إلى أن المعدن كالركاز، واحتج لهم بقول العرب: أركز الرجل إذا أصاب ركازا، وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن، وهذا قول صاحب العين وأبي عبيد، وفي (مجمع الغرائب) الركاز المعادن، وفي (النهاية) لابن الأثير: المعدن والركاز واحد، فإذا علم ذلك بطل التشنيع على أبي حنيفة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "مثل دفن الجاهلية" بكسر الدال كما ذكرنا عن قريب بمعنى المدفون.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لأنه يقال: أركز المعدن إذا خرج منه شيء" والضمير في لأنه ضمير الشأن، وأشار به إلى تعليل من يقول: إن المعدن هو الركاز، وليس كذلك؛ لأنه لم ينقل عنهم ولا عن العرب أنهم قالوا: "أركز المعدن" وإنما قالوا: أركز الرجل، فإذا لم يكن هذا صحيحا فكيف يتوجه الإلزام بقول القائل: "قد يقال لمن وهب له" إلى آخره، أراد أنه يلزم أن يقال: كل واحد من الموهوب والربح والثمر ركاز، فيجب فيه الخمس، وليس كذلك، بل الواجب فيه العشر. ومعنى "أركز الرجل" صار له ركاز من قطع الذهب كما ذكرنا، ولا يلزم منه أنه إذا وهب له شيء أن يقال له: "أركزت" بالخطاب، وكذلك إذا ربح ربحا كثيرا أو كثر ثمره، ولو علم المعترض أن معنى "أفعل" هاهنا ما هو لما اعترض ولا أفحش فيه، ومعنى "أفعل" هنا للصيرورة، يعني لصيرورة الشيء منسوبا إلى ما اشتق منه الفعل، كأغد البعير أي: صار ذا غدة، ومعنى "أركز الرجل" صار له ركاز من قطع الذهب كما ذكرناه، ولا يقال إلا بهذا القيد، أعني: "من قطع الذهب" ولا يقال: "أركز الرجل" مطلقا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم ناقض" أي: [ ص: 101 ] ناقض هذا القائل قوله، وجه هذه المناقضة على زعمه أنه قال أولا: المعدن يجب فيه الخمس؛ لأنه ركاز.

                                                                                                                                                                                  وقال ثانيا: إنه لا يؤدى الخمس في الركاز وهو متناول للمعدن.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أن يكتمه" أي: عن الساعي حتى لا يطالب به.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا ليس بمناقضة؛ لأنه فهم من كلام هذا القائل غير ما أراده، فصدر هذا عنه بلا تأمل ولا ترو.

                                                                                                                                                                                  بيان ذلك: أن الطحاوي حكى عن أبي حنيفة أنه قال: من وجد ركازا فلا بأس أن يعطي الخمس للمساكين، وإن كان محتاجا جاز له أن يأخذه لنفسه. قال: وإنما أراد أبو حنيفة أنه تأول أن له حقا في بيت المال ونصيبا في الفيء، فلذلك له أن يأخذ الخمس لنفسه؛ عوضا من ذلك، ولقد صدق الشاعر:


                                                                                                                                                                                  وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم



                                                                                                                                                                                  والكرماني أيضا مشى في مشيهم، ولكنه اعترف أن النقض تعسف، حكاه عن ابن بطال ورضي به.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: نقل الطحاوي عن أبي حنيفة أيضا أنه لو وجد في داره معدنا فليس عليه شيء، ثم قال: وبهذا يتجه اعتراض الطحاوي.

                                                                                                                                                                                  (قلت): معناه لا يجب عليه شيء في الحال، إلا إذا حال الحول وكان نصابا يجب فيه الزكاة، وبه قال أحمد، وعند أبي يوسف ومحمد: يجب الخمس في الحال، وعند مالك والشافعي: الزكاة في الحال، وهذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول".

                                                                                                                                                                                  وقال هذا القائل أيضا: والفرق بين المعدن والركاز أن المعدن يحتاج إلى عمل ومؤنة ومعالجة بخلاف الركاز.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا شيء عجيب؛ لأنه ليس بهذا يعرف حقيقة كل واحد منهما ما هي، والفرق بين الأشياء ببيان ماهياتها وحقائقها، والذي ذكره هذا من اللوازم الخارجية عن الماهية.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية