الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأيضا : فمما يبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق في اليمين والحلف في كلام الله ورسوله ، ما روى ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، فلا حنث عليه " . رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن . ولفظ أبي داود قال : [ حدثنا أحمد بن حنبل قال ] : حدثنا سفيان عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر - يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، فقد استثنى " ، ورواه أيضا من طريق عبد [ الوارث ] عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف فاستثنى فإن شاء رجع ، وإن شاء ترك ، غير حنث " .

              وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف فقال : إن شاء الله ، لم يحنث " ، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ، ولفظه : " فله ثنياه " ، والنسائي وقال : " فقد استثنى " .

              ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر وبالطلاق وبالعتاق في هذا الحديث وقالوا : ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة ، بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه في مذهبه ، وإنما الخلاف [ ص: 345 ] فيما إذا كان بصيغة الجزاء ، وإنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق والعتاق . والفرق بين إيقاعهما والحلف بهما ظاهر . وسنذكر إن شاء الله قاعدة الاستثناء .

              فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، فلا حنث عليه " ، فكذلك يدخل في قوله : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه " ، فإن كلا اللفظين سواء ، وهذا واضح لمن تأمله .

              فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين ، فقال : إن شاء الله ، فلا حنث عليه " ، لفظ العموم فيه مثله في قوله : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " . وإذا كان لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حكم الاستثناء هو لفظه في حكم الكفارة : وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الاستثناء ينفع فيه التكفير ، وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الاستثناء ، كما نص عليه أحمد في غير موضع .

              ومن قال : إن الرسول قصد بقوله : " من حلف على يمين ، فقال : إن شاء الله ، فلا حنث عليه " جميع الأيمان التي يحلف بها ، من اليمين بالله وبالنذر وبالطلاق وبالعتاق ، وأما قوله : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها إلخ " إنما قصد به اليمين بالله ، أو اليمين بالله والنذر ، فقوله ضعيف . فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حضور موجب اللفظ الآخر ، إذ كلاهما لفظ واحد ، والحكم فيهما من جنس واحد ، وهو [ رفع ] اليمين : إما بالاستثناء ، وإما بالتكفير .

              [ ص: 346 ] وبعد هذا فاعلم أن الأمة انقسمت في دخول الطلاق والعتاق في حديث الاستثناء على ثلاثة أقسام :

              فقوم قالوا : يدخل في ذلك الطلاق والعتاق أنفسهما ، حتى لو قال : أنت طالق إن شاء الله ، وأنت حر إن شاء الله ، دخل ذلك في عموم الحديث . وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما .

              وقوم قالوا : لا يدخل في ذلك الطلاق والعتاق ، لا إيقاعهما ولا الحلف بهما ، لا بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم . وهذا أشهر القولين في مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد .

              والقول الثالث : أن إيقاع الطلاق والعتاق لا يدخل في ذلك ، بل يدخل فيه الحلف بالطلاق والعتاق . وهذه الرواية الثانية عن أحمد ، ومن أصحابه من قال : إن كان الحلف بصيغة القسم دخل في الحديث ، ونفعته المشيئة ، رواية واحدة ، وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان .

              وهذا القول الثالث هو الصواب المأثور معناه عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمهور التابعين . فإن ابن عباس وأكثر التابعين - كسعيد بن المسيب والحسن - لم يجعلوا في الطلاق استثناء ، ولم يجعلوه من الأيمان .

              ثم قد ذكرنا عن الصحابة وجمهور التابعين : أنهم جعلوا الحلف بالصدقة والهدي والعتاقة ونحو ذلك يمينا مكفرة . وهذا معنى قول أحمد في غير موضع : لا استثناء في الطلاق والعتاق ، ليسا من الأيمان .

              وقال أيضا : الثنيا في الطلاق لا أقول بها . وذلك أن الطلاق والعتاق حرفان واقعان .

              [ ص: 347 ] وقال أيضا : إنما يكون الاستثناء فيما يكون فيه كفارة ، والطلاق والعتاق لا يكفران ، وهذا الذي قاله ظاهر .

              وذلك أن إيقاع الطلاق والعتاق ليسا يمينا أصلا ، وإنما هو بمنزلة العفو عن القصاص والإبراء من الدين ، ولهذا لو قال : والله لا أحلف على يمين ، ثم إنه أعتق عبيدا له ، أو طلق امرأته ، أو أبرأ غريمه من دم أو مال أو عرض ، فإنه لا يحنث ، ما علمت أحدا خالف في ذلك .

              فمن أدخل إيقاع الطلاق والعتاق في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، لم يحنث " ، فقد حمل العام ما لا يحتمله ، كما أن من أخرج من هذا العام قوله : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا ، أو لا أفعله إن شاء الله ، أو إن فعلته فامرأتي طالق إن شاء الله ، فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه . فإن هذا اليمين بالطلاق والعتاق [ وهنا ينبغي تقليد أحمد بقوله : الطلاق والعتاق ] ليسا من الأيمان ، فإن الحلف بهما كالحلف بالصدقة والحج ونحوهما . وذلك معلوم بالاضطرار عقلا وعرفا وشرعا . ولهذا لو قال : والله لا أحلف على يمين أبدا ، ثم قال : إن فعلت كذا فامرأتي طالق : حنث .

              وقد تقدم أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سموه يمينا [ وكذلك الفقهاء كلهم سموه يمينا ] وكذلك عامة المسلمين يسمونه يمينا . فمعنى اليمين موجود فيه ، فإنه إذا قال : أحلف بالله لأفعلن إن [ ص: 348 ] شاء الله ، فإن المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه . والمعنى : إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله ، فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه ، فلا يكون ملتزما له ، وإلا فلو نوى عوده إلى الحلف ، بأن يقصد أني حالف إن شاء الله أن أكون حالفا : كان معنى هذا [ معنى ] الاستثناء في الإنشاءات ، كالطلاق والعتاق ، وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك . وكذلك قوله : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله ، تعود المشيئة عند الإطلاق إلى الفعل . فالمعنى : لأفعلنه إن شاء الله فعله ، فمتى لم يفعله لم يكن الله قد شاءه ، فلا يكون ملتزما للطلاق ، بخلاف ما لو عنى : الطلاق يلزمني إن شاء الله لزومه إياه . فإن هذا بمنزلة قوله : أنت طالق إن شاء الله .

              وقول أحمد : " إنما يكون الاستثناء فيما فيه الكفارة ، والطلاق والعتاق لا يكفران " كلام حسن بليغ ، لما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرج حكم الاستثناء وحكم الكفارة مخرجا واحدا [ بصيغة الجزاء ] بصيغة واحدة ، فلا يفرق بين ما جمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأن الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل ، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوهما : لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها ، فإنها واجبة بوجود أسبابها ، فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله . وإنما تعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها الله وقد لا يشاؤها من أفعال العباد ونحوها . والكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث في اليمين التي قد يحصل فيها الموافقة : بالبر تارة ، والمخالفة بالحنث أخرى . فوجوب الكفارة بالحنث في اليمين التي تحتمل الموافقة والمخالفة ، كارتفاع اليمين [ ص: 349 ] بالمشيئة التي تحتمل التعليق وعدم التعليق . فكل من حلف على شيء ليفعله فلم يفعله فإنه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه ، وإن لم يعلقه بالمشيئة لزمته الكفارة . فالاستثناء والتكفير يتعاقبان اليمين ، إذا لم يحصل فيها الموافقة .

              فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع في هذا الباب من الزيادة أو النقص على ما أوجبه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

              ثم يقال بعد ذلك : قول أحمد وغيره : " الطلاق والعتاق لا يكفران " ، كقوله وقول غيره : لا استثناء فيهما . وهذا في إيقاع الطلاق والعتاق . أما الحلف بهما فليس تكفيرا لهما ، وإنما هو تكفير للحلف بهما ، كما أنه إذا حلف بالصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي ونحو ذلك في نذر اللجاج والغضب : فإنه لم يكفر الصلاة والصيام [ والصدقة ] والهدي والحج ، وإنما يكفر الحلف بهما ، وإلا فالصلاة لا كفارة فيها ، وكذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها ، وكما أنه إذا قال : إن فعلت كذا فعلي أن أعتق ، فإن عليه الكفارة بلا خلاف في مذهب أحمد وموافقيه من القائلين بنذر اللجاج والغضب . وليس ذلك تكفيرا للعتق ، وإنما هو تكفير للحلف به .

              فلازم قول أحمد هذا : أنه إذا جعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء : كان الحلف بهما تصح فيه الكفارة . وهذا موجب سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قدمناه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية