الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              أما فساد الدين : فإن الطلاق منهي عنه مع استقامة حال الزوجين باتفاق العلماء ، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات " ، وقال : " أيما امرأة سألت زوجها [ ص: 360 ] الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة " .

              وقد اختلف العلماء : هل هو محرم أو مكروه ؟ وفيه روايتان عن أحمد ، وقد استحسنوا جواب أحمد لما سئل عمن حلف بالطلاق ليطأن امرأته وهي حائض ؟ فقال : يطلقها ولا يطأها ، قد أباح الله الطلاق وحرم وطء الحائض .

              وهذا الاستحسان يتوجه على أصلين : إما على قوله : إن الطلاق ليس بحرام ، [ وإما أن ] يكون تحريمه دون تحريم الوطء ، وإلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلى حرام .

              وأما ضرر الدنيا : فأبين من أن يوصف . فإن لزوم الطلاق المحلوف به في كثير من الأوقات يوجب من الضرر ما لم تأت به الشريعة الإسلامية في مثل هذا قط ، فإن المرأة الصالحة تكون في صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة ، وهي متاعه التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم : " الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة المؤمنة ، إن نظرت إليها أعجبتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك " ، وهي التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله لما سأله المهاجرون : " أي المال خير فنتخذه ؟ فقال : أفضله : لسان ذاكر وقلب شاكر وامرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه " ، رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي [ ص: 361 ] الجعد عن ثوبان . ويكون بينهما من المودة والرحمة ما امتن الله به في كتابه بقوله : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [ الروم : 21 ] ، فيكون ألم الفراق أشد عليهما من الموت أحيانا ، وأشد من ذهاب المال ، وأشد من فراق الأوطان ، خصوصا إن كان بقلب كل واحد منهما حب وعلاقة من صاحبه ، أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق ويفسد حالهم ، ثم يفضي ذلك إلى القطيعة بين أقاربهما ، ووقوع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله بها في قوله : فجعله نسبا وصهرا [ الفرقان : 54 ] ، ومعلوم أن هذا من الحرج الداخل في عموم قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، ومن العسر المنفي بقوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .

              وأيضا : فلو كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر وإحسان من صدقة وعتاقة وتعليم علم وصلة رحم وجهاد في سبيل الله ، وإصلاح بين الناس ، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها ، فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق لا يفعل ذلك ، بل ولا يؤمر به شرعا ؛ لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال ، وهذه المفسدة هي التي أزالها الله بقوله : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم [ البقرة : 124 ] ، وأزالها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله من أن يأتي الكفارة التي فرض الله " .

              فإن قيل : فهو الذي أوقع نفسه في أحد هذه المضرات الثلاث ، فما كان ينبغي له أن يحلف .

              [ ص: 362 ] قيل : ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم ، فإن الله لم يحمل علينا إصرا كما حمله على الذين من قبلنا . فهب أن هذا قد أتى كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق ، ثم تاب من تلك الكبيرة ، فكيف يناسب أصول شريعتنا أن يبقى أثر ذلك الذنب عليه ، لا يجد منه مخرجا ؟ وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق ، لا بالحلف عليه ، فإنه لا يفعل ذلك إلا وهو مريد للطلاق : إما لكراهته للمرأة ، أو غضبه عليها ونحو ذلك .

              وقد جعل الله الطلاق ثلاثا ، فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره ، [ ووالى ] ثلاث مرات متفرقات ، كان وقوع الضرر في مثل هذا نادرا بخلاف الأول ، فإن مقصوده لم يكن الطلاق ، وإنما كان أن يفعل المحلوف عليه ، أو لا يفعله . ثم قد يأمره الشرع ، أو تضطره الحاجة إلى فعله أو تركه ، فيلزمه الطلاق بغير اختياره له ولا لسببه .

              وأيضا : فإن الذي بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - في باب الأيمان : تخفيفها بالكفارة ، لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم ، فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا ، واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت - رضي الله عنه - من امرأته .

              وأيضا : فالاعتبار بنذر اللجاج والغضب ، فإنه ليس بينهما من الفرق إلا ما ذكرناه ، وسنبين إن شاء الله عدم تأثيره . والقياس بإلغاء الفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين .

              وذلك : أن الرجل إذا قال : إن أكلت أو شربت فعلي أن أعتق [ ص: 363 ] عبدي ، أو فعلي أن أطلق امرأتي ، أو فعلي الحج ، أو فأنا محرم بالحج ، أو فمالي صدقة ، أو فعلي صدقة : فإنه تجزئه كفارة يمين عند الجمهور ، كما قدمناه بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، فكذلك إذا قال : إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلي الطلاق ، أو فالطلاق لي لازم ، أو فامرأتي طالق ، أو فعبيدي أحرار . وإن قال : علي الطلاق لا أفعل كذا ، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا ، فهو بمنزلة قوله : علي الحج لا أفعل كذا ، أو الحج لي لازم لا أفعل كذا ، وكلاهما يمينان محدثتان ليستا مأثورتين عن العرب ، ولا معروفتين عند الصحابة .

              وإنما المستأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا ، وربطوا إحدى الجملتين بالأخرى ، كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها ، وكانت العرب تحلف بها ، لا فرق بين هذا وهذا ، إلا أن قوله : إن فعلت كذا فمالي صدقة : يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل ، وقوله : فامرأتي طالق : يقتضي وجود الطلاق . فالكلام يقتضي وقوع الطلاق بنفس الشرط ، وإن لم يحدث بعد هذا طلاقا ، ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة .

              وجواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء المفرقون من وجهين :

              أحدهما : منع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها ، وفي بعض صور الفروع المقيس عليها .

              والثاني : بيان عدم التأثير .

              أما الأول : فإنه إذا قال : إن فعلت كذا فمالي صدقة ، أو فأنا محرم ، أو فبعيري هدي : فالمعلق بالصفة وجود الصدقة والإحرام [ ص: 364 ] والهدي ، لا وجوبها ، كما أن المعلق في قوله : فعبدي حر ، وامرأتي طالق : وجود الطلاق والعتق ، لا وجوبهما . ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ، فيما إذا قال : هذا هدي ، وهذا صدقة لله ، هل يخرج عن ملكه أو لا يخرج ؟ فمن قال : يخرج عن ملكه ، فهو كخروج زوجه وعبده عن ملكه . أكثر ما في الباب : أن الصدقة والهدي يتملكها الناس ، بخلاف الزوجة والعبد ، وهذا لا تأثير له . وكذلك لو قال : علي الطلاق لأفعلن كذا ، أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا ، فهو كقوله : علي الحج لأفعلن كذا ، فهو جعل المحلوف به هنا وجوب الطلاق لا وجوده كأنه قال : إن فعلت كذا فعلي أن أطلق .

              فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب ، كما أن بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود .

              وأما الجواب الثاني : فنقول : هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتاق ، والمعلق هناك وجوب الصدقة والحج والصيام والإهداء ، أليس موجب الشرط ثبوت هذا الوجوب وذاك الوجود عند وجود الشرط ؟

              فإذا كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب ، بل يجزيه كفارة يمين ، فكذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود ، بل يجزيه كفارة يمين ، كما لو قال : هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا ، فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ، ثم إذا وجد الشرط لم يوجد [ ص: 365 ] الكفر بالاتفاق ، بل يلزمه كفارة يمين أو لا يلزمه شيء . ولو قال ابتداء : هو يهودي أو نصراني أو كافر : للزمه الكفر ، بمنزلة قوله ابتداء : عبدي حر وامرأتي طالق ، وهذه البدنة هدي ، وعلي صوم يوم الخميس . ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله : إذا أهل الهلال فقد برئت من دين الإسلام ، لكان الواجب أن يحكم بكفره ، لكن لا [ يتأخر ] الكفر ، لأن توقيته دليل على فساد عقيدته .

              فإن قيل في الحلف بالنذر : إنما عليه الكفارة فقط .

              قيل مثله في الحلف بالعتق ، وكذلك في الحلف بالطلاق ، كما لو قال : فعلي أن أطلق امرأتي .

              ومن قال : إنه إذا قال : " فعلي أن أطلق امرأتي " لا يلزمه شيء ، فقياس قوله في الطلاق : لا يلزمه شيء . ولهذا توقف طاوس في كونه يمينا .

              وإن قيل : إنه يخير بين الوفاء به والتكفير ، فكذلك هنا يخير بين الطلاق والعتق وبين التكفير . فإن وطئ امرأته كان اختيارا منه للتكفير ، كما أنه في الظهار يكون مخيرا بين التكفير وبين تطليقها ، فإن وطئها لزمته الكفارة ، لكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر ؛ لأن الظهار منكر من القول وزور حرمها عليه . وأما هنا فقوله : إن فعلت فهي طالق ، فهو بمنزلة قوله : فعلي أن أطلقها . أو قال : والله لأطلقنها ، فإن طلقها فلا شيء عليه ، وإن لم يطلقها فعليه كفارة يمين .

              يبقى أن يقال : فهل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها [ ص: 366 ] حينئذ ، كما لو قال : والله لأطلقنها الساعة ولم يطلقها ، أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها ، أو لا تجب إلا إذا وجد منه ما يدل على الرضا بها من قول أو فعل ، كالذي يخير بين فراقها وإمساكها لعيب ونحوه ، وكالمعتقة تحت عبد ، أو لا تجب بحال حتى يفوت الطلاق ؟ قيل الحكم في ذلك كما لو قال : فثلث مالي صدقة أو هدي ونحو ذلك .

              والأقيس في ذلك : أنه مخير بينهما على التراخي ، ما لم يوجد منه ما يدل على الرضى بأحدهما ، كسائر أنواع الخيار .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية