الحادي عشر : أن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع : مفردا ومثنى ومجموعا ، فالمفرد كقوله : ( بيده الملك ) والمثنى كقوله : ( خلقت بيدي ) والمجموع ( عملت أيدينا ) فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعدى الفعل بالباء إليها فقال ( خلقت بيدي ) وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء ، فهذه ثلاثة فروق فلا يحتمل ( خلقت بيدي ) من المجاز ما يحتمله ( عملت أيدينا ) فإن كل أحد يفهم من قوله : ( عملت أيدينا ) ما [ ص: 41 ] يفهمه من قوله : عملنا وخلقنا ، كما يفهم ذلك من قوله : ( فبما كسبت أيديكم ) ، وأما قوله : ( خلقت بيدي ) فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى ، فكيف وقد دخلت عليها الباء ؟ فكيف إذا ثنيت ؟
وسر الفرق أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد المراد الإضافة إليه كقوله : ( بما قدمت يداك ) ( فبما كسبت أيديكم ) وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عدي بالباء إلى يده مفردة أو مثناة فهو مما باشرته به ، ولهذا قال : ( إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا : خلق عبد الله بن عمرو آدم بيده ، وغرس جنة الفردوس بيده ، وكتب التوراة بيده ) . فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على كل شيء مما خلق بالقدرة ) .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الموقف يأتونه يوم القيامة فيقولون : " آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده " وكذلك قال يا آدم لموسى في محاجته له : " " ، وفي لفظ آخر : " كتب لك التوراة بيده " وهو من أصح الأحاديث ، وكذلك الحديث المشهور " اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده أن الملائكة قالوا : يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون ، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة ، فقال الله تعالى : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن [ ص: 42 ] فكان " وهذا التخصيص إنما فهم من قوله : ( خلقت بيدي ) فلو كان مثل قوله : ( مما عملت أيدينا ) لكان هو والأنعام في ذلك سواء .
فلما فهم المسلمون أن قوله : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) يوجب له تخصيصا وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له ، وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه ، كانت التسوية بينه وبين قوله : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) خطأ محضا ، كذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " " وقوله صلى الله عليه وسلم : " يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى " وقال تعالى : ( يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه ، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ) وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ، في أعلى أهل الجنة منزلة : " " . أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها
وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنس بن مالك خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده فقال لها : تكلمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون " ، وقال عبد الله بن الحارث : [ ص: 43 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن : خلق الله خلق ثلاثة أشياء بيده آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث " ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : " " . تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح الصلاة : " " وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم : " لبيك وسعديك والخير كله بيدك " وقال إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عبد الله بن مسعود العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى فيد الله " وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : " الأيدي ثلاثة : " . المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين
وفي المسند وغيره من حديث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أبى هريرة آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له ربه : يرحمك ربك يا آدم ، وقال له : اذهب إلى أولئك الملائكة إلى نفر جلوس فقل : السلام عليكم ، فذهب فقالوا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، ثم رجع إلى ربه ، فقال : هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم ، فقال الله تعالى ، ويداه مقبوضتان : اختر أيهما شئت ، فقال : اخترت يمين ربي ، وكلتا يدي ربي يمين مباركة ، ثم بسطها فإذا فيها آدم [ ص: 44 ] وذريته . . . الحديث " ، وقال لما خلق الله : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عمر بن الخطاب آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون خلق الله " .
وقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هشام بن حكيم آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم ، ثم فاض بهم في كفيه ، ثم قال : هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار الله أخذ ذرية بني " ، وقال إن : " عبد الله بن عمرو آدم نفضه نفض المزود فقبض قبضتين ، فقال لما في اليمين : في الجنة ، وقال لما في الأخرى : في النار " وقال لما خلق الله عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أبو موسى الأشعري آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فمنهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك ، والسهل والحزن والطيب والخبيث " . إن الله خلق
[ ص: 45 ] وقال " سلمان الفارسي إن الله خمر طينة آدم أربعين ليلة وأربعين يوما ، ثم ضرب بيديه فيها فخرج كل طيب بيمينه وخرج كل خبيث بيده الأخرى " وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبو هريرة " متفق عليه . ما تصدق أحد بصدقة من طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، إلا أخذها الرحمن بيمينه ، وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل
وقال أنس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمر : حسبك ، فقال أبو بكر : دعني يا عمر ، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا ، فقال عمر : إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكف واحدة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق عمر " وقال " إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف " فقال أبو بكر : زدنا يا رسول الله قال " وهكذا " وجمع يديه ، قال : زدنا يا رسول الله قال : " وهكذا " قال : زدنا يا رسول الله ، فقال نافع عن : سألت ابن عمر عن ابن أبي مليكة فقال : لا ، بل اثنتان . وقال يد الله واحدة أو اثنتان ؟ رضي الله عنه : " ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهما في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم " ، وقال ابن عباس ابن عمر : " أول شيء خلقه الله القلم ، فيأخذه بيمينه ، وكلتا يديه يمين ، فكتب الدنيا وما فيها من عامل ومعمول في بر وبحر ورطب ويابس فأحصاه عنده " . وابن عباس
وقال في قوله تعالى : ( ابن عباس والسماوات مطويات بيمينه ) " يقبض الله عليهما فما يرى طرفها في يده " وقال رضي الله عنه : " ابن عمر ، ثم قال هكذا : ومد يده وبسطها ، ثم يقول : أنا الله أنا الرحمن . . . إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السماوات والأرض في قبضته " الحديث ، وقال [ ص: 46 ] رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر فقال : ابن وهب عن أسامة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر : ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) قال : " مطوية بيمينه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة " وقال عبيد الله بن مقسم : نظرت إلى عبد الله بن عمر كيف صنع ، يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " وقال يأخذ الله سماواته وأرضيه بيده ، فيقول : أنا الله " ، ويقبض أصابعه ويبسطها " ويقول : أنا الرحمن أنا الملك " حتى إني أنظر إلى المنبر يتحرك من أسفل منه حتى إني أقول : أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ : لما كتب الله التوراة بيده قال : " باسم الله ، هذا كتاب الله بيده لعبده زيد بن أسلم موسى يسبحني ويقدسني ولا يحلف باسمي آثما ، فإني لا أزكي من حلف باسمي آثما " .
وإنما ذكرنا هذه النصوص التي هي غيض من فيض ليعلم الواقف عليها أنها لا يفهم أحد من عقلاء بني آدم منها شخصا له شق واحد وعليه أيد كثيرة ، وله ساق واحدة ، وله أعين كثيرة .