فصل
وكذلك قوله في الحديث الذي رواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ابن عباس إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم " ، وهو ما يحتج به [ ص: 246 ] الجبرية ، وأسعد الناس به أهل السنة الذين قابلوه بالتصديق وتلقوه بالقبول ، وعلموا من عظمة الله وجلاله وقدر نعمه على خلقه عدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم ، إما عجزا وإما جهلا وإما تفريطا وإما إضاعة وإما تقصيرا في المقدور من الشكر ، ولو من بعض الوجوه ، فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وتكون قوة القلب كلها ، وقوة الإنابة والتوكل ، والخشية والمراقبة والخوف والرجاء ، جميعها متوجهة إليه ومتعلقة به ، بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتألهه ، بل على إفراده بذلك اللسان محبوسا على ذكره ، والجوارح وقفا على طاعته ، قد استسلمت له القلوب أتم استسلام ، وذلت له أكمل ذل ، وخضعت له أعظم خضوع ، وقد فنيت بمراده ومحابه عن مرادها ومحابها ، فلم يكن لها مراد محبوب غير مراده ومحبوبه البتة .
ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة ، ولكن النفوس تشح به ، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى ، وأكثر المطيعين يشح به من وجه كان أتى به من وجه ، ولعل ما لا تسمح به نفسه أكثر مما تسمح به مع فضل زهده وعبادته وعلمه وورعه ، فأين الذي لا يقع منه إرادة تزاحم إرادة الله وما يحبه منه ، فلا يعثر به غفلة واسترسال مع حكم الطبيعة والميل إلى داعيها ، وتقصير في حق الله تعالى معرفة ومراعاة وقياما به ؟ ومن الذي ينظر في كل نعمة من النعم دقيقها وجليلها إلى أنها منة ربه وفضله وإحسانه ، فيذكره بها ويحبه عليها ، ويشكره عليها ، ويستعين بها على طاعته ، ويعترف مع ذلك بقصوره وتقصيره ، وأن حق الله تعالى عليه أعظم مما أتى به ، ومن الذي يوفي حقا واحدا من الحقوق وعبودية واحدة حقها من الإجلال والتعظيم والنصح لله تعالى فيها ، وبذل الجهد في وقوعها على ما ينبغي لوجهه الكريم مما يدخله على قدره العبد ظاهرا وباطنا ؟ ومع هذا فيراها محض منة الله عليه وفضله عليه ، وأن ربه هو المستحق عليها الحمد ، وأنه لا وسيلة توسل بها إلى ربه حتى نالها ، وأنه يقابلها بما تستحق أن تقابل به من كمال الذل والخضوع ، والمحبة والبراءة من حوله وقوته ، ويمحو نفسه من البين ، وأن يكون فيها بالله لا بنفسه ولله لا لنفسه ؟ ومن الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ، ولو في وقت من الأوقات ، من حركة نفسه وجوارحه ، أو يترك بعض ما خلق له ، أو يؤثر بعض حظوظه ومراده على مراد الله ومرضاته ويزاحمه به ؟
[ ص: 247 ] ومن المعلوم عقلا وشرعا وفطرة أن الله تعالى يستحق على عبده غاية التعظيم والإجلال والعبودية التي تصل إليها قدرته ، وكل ما ينافي التعظيم والإجلال يستحق عليه من العقوبة ما يناسبه ، والشرك والمعصية والغفلة واتباع الهوى وترك بذل الجهد والنصيحة في القيام بحق الله باطنا وظاهرا ، وتعلق القلب بغيره ، والتفاته إلى ما سواه ، ومنازعة ما هو من خصائص ربوبيته ، ورؤية النفس والمشاركة في الحول والقوة ، ورؤية الملة في شيء من الأشياء فلا ينسلخ منها بالكلية ، كل ذلك ينافي التعظيم والإجلال ، فلو وضع سبحانه العدل على العباد لعذبهم بعدله فيهم ولم يكن ظالما ، وغاية ما يقدر توبة العبد من ذلك واعترافه به ، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه ، وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالما ولو قدر أنه تاب منها ، لكن أوجب على نفسه بمقتضى فضله ورحمته ألا يعذب من تاب من ذنبه واعترف به رحمة وإحسانا ، وقد كتب سبحانه على نفسه الرحمة ، فلا يسع الخالق إلا رحمته وعفوه ، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار أو يدخل به الجنة ، كما قال أطوع الخلق لربه ، وأفضلهم عملا وأشدهم تعظيما له : " " . لن ينجي أحدا منكم عمله " قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل
وكان صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق استغفارا ، وكانوا يعدون عليه في المجلس الواحد مائة مرة : " " ، وكان يقول : " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم ، وكان يا أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فوالله إني لأتوب إليه وفي لفظ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة " ، وكان إذا سلم في صلاته استغفر ثلاثا " ، وكان يقول بين السجدتين : " رب اغفر لي " . يقول في سجوده : " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي جدي وهزلي ، [ ص: 248 ] وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت
وكان يستغفر في استفتاح الصلاة وفي خاتمة الصلاة ، وعلم أفضل الأمة أن يستغفر في صلاته ويعترف على نفسه بظلم كثير ، وقد قال تعالى : ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) ، وقال : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) فأهل السماوات والأرض محتاجون إلى مغفرته كما هم محتاجون إلى رحمته ، ومن ظن أنه يستغني عن مغفرة الله فهو كمن ظن أنه مستغن عن رحمته فلا يستغني أحد عن مغفرته ورحمته ، كما لا يستغني عن نعمته ومنته ، فلو أمسك عنهم فضله ومنته ورحمته لهلكوا وعذبوا ، ولم يكن ظالما ، وحينئذ فتصيبهم النقمات بإمساك فضله ، وكل نقمة منه عدل .
ومما يوضح هذا أن الظلم يقدس عنه ، أن يعاقبهم بما لم يعلموا ويمنعهم ثواب ما يستحقون ثوابه ، وهو سبحانه لا يعذب إلا بسبب كما إذا أراد تعذيب الأطفال والمجانين ومن لم تقم عليه حجته في الدنيا امتحنهم في الآخرة ، فعذب من عصاه منهم بأسباب أظهرها بالامتحان كما أظهر امتحان إبليس سبب عقوبته ، فلو أراد تعذيب أهل سماواته وأرضه كلهم لامتحنهم امتحانا يظهر أسباب تعذيبهم فيكون عدلا منه ، فإنه يعلم من العبد ما لا يعلمه العبد من نفسه .
قال : لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ، ما وجدوا عليه سبيلا ، ومما يوضح ذلك أن مذهب أهل السنة أن الأنبياء والمرسلين أفضل من الملائكة ، وقد طلبوا كلهم منه المغفرة والرحمة ، فقال أول الأنبياء وأبو البشر : ( الحسن البصري ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) فهو صلى الله عليه وسلم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته ، وأسكنه جنته وعلمه أسماء كل شيء ، وإنما انتفع في المحنة باعترافه وإقراره على نفسه بالظلم وسؤاله المغفرة والرحمة ، وهذا نوح [ ص: 249 ] أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض يسأله المغفرة ويقول : ( وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) ، وهذا يونس يقول : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ، وإبراهيم الخليل يقول : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) ويقول : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) الآية ، وكليم الرحمن موسى يقول : ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ) ويقول : ( أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ) ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، أفضلهم وأكملهم ، وقد تقدم بعض ما كان يستغفر ربه ، وسأله أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته فقال : " الصديق " ، وإذا كان هذا حال قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم الذي هو أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين ، وأفضل من الملائكة عند أهل السنة وهو يخبر بما هو صادق فيه من ظلم نفسه ظلما كثيرا ، فما الظن بسواه ؟ بل إنما صار صديقا بتوفيته هذا المقام حقه الذي يتضمن معرفة ربه وحقه وعظمته وجلاله ، وما ينبغي له وما يستحقه على عبده ، ومعرفة تقصيره في ذلك ، وأنه لم يقم به كما ينبغي ، فأقر على نفسه إقرارا هو صادق فيه أنه ظلم نفسه ظلما كثيرا وسأل ربه أن يغفر له ويرحمه . الصديق
سحقا وبعدا لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها ، وليس وراء هذا الجهل بالله وعظمته وحقه غاية .