الوجه الثاني : أن نقول : لا شك في أن القرآن الكريم حاو لجميع العلوم ، وأئمة المفسرين أصناف شتى ، كل صنف منهم غلب عليه فن من العلوم ، فكان تفسيره في غاية الإتقان من حيث ذلك الفن الغالب عليه ، فينبغي لمن أراد التكلم على آية من حيثية أن ينظر تفسير من غلب عليه ذلك الفن الذي تلك الحيثية منه ، فمن أراد التكلم على آية من حيث التفسير الذي هو نقل محض ومعرفة الأرجح فيه ، فالأولى أن ينظر عليها تفاسير أئمة النقل والأثر ، وأجلها تفسير ؛ فقد قال ابن جرير الطبري النووي في تهذيب الأسماء واللغات : كتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله . وقريب منه من تفاسير المتأخرين تفسير الحافظ ابن جرير عماد الدين ابن كثير . وكذلك من أراد التكلم على آية تتعلق بالأخبار السابقة أو الآتية كأشراط الساعة وأحوال البرزخ والبعث والملكوت ونحو ذلك مما لا مجال للرأي فيه ، فالأولى أخذها من التفسيرين المذكورين ، وسائر تفاسير المحدثين المسندة ؛ كسعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم ومن جرى مجراهم ، ومن أراد التكلم على آية من حيث علم الكلام فالأولى أن ينظر عليها تفسير من غلب عليه الكلام واشتهر بالبراعة فيه ، وأبي الشيخ كابن فورك والباقلاني وإمام الحرمين والإمام فخر الدين والأصبهاني ونحوهم ، ومن أراد التكلم عليها من حيث الإعراب فالأولى أن ينظر عليها تفسير أئمة النحو المتبحرين فيه ؛ كأبي حيان ، ومن أراد التكلم عليها من حيث البلاغة فالأولى أن ينظر عليها الكشاف وتفسير الطيبي ونحو ذلك .
ومسألة تفضيل أبي بكر من علم الكلام ، وكونه هو المراد بالآية من علم التفسير ، فكان الأولى للجوجري قبل الكتابة أن ينظر عليها كتاب ونحوه ؛ لأجل معرفة الأرجح في التفسير ، وكتاب ابن جرير الإمام فخر الدين ونحوه ؛ لأجل معرفة التقرير الكلامي ، ثم ينهض إلى مراجعة كتب أئمة الكلام لينظر كيف قرروا الاستدلال بها على [ ص: 392 ] أفضلية الصديق ، ككتب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك والباقلاني وإمام الحرمين والشهرستاني ، ومن جرى مجراهم ، ويتعب كل التعب ويجد كل الجد ، ويعتزل الراحة والشغل ، ولا يسأم ولا يضجر ، ويدع الفتيا تمكث عنده الشهر والشهرين والعام والعامين ، فإذا وقف على متفرقات كلام الناس في المسألة ونظر وحقق وأورد على نفسه كل إشكال وأعد له الجواب المقبول ، حطم حينئذ على الكتابة وحكم بين الأمراء وفصل بين العلماء ، وأما الاستعجال في الجواب والكتابة بمجرد ما يخطر بباله ويظهر في بادئ الرأي ، مع الراحة والاتكال على الشهرة ، وعدم التضلع بذلك الفن وما يحتاج إليه فيه ، فإنه لا يليق ، ولهذا تجد الواحد ممن كان بهذه المثابة يكتب ويرجع ويتزلزل بأدنى زلزلة ، ويضطرب قوله في المسألة الواحدة مرات ، ويبحث معه أدنى الطلبة فيشككه ، وأكثر ما يحتج به الواحد منهم إذا صمم على قوله أن يقول : الظاهر كذا أو كذا ، أو هذا الذي ظهر لي ، من غير اعتماد على مستند بيده أو حجة يظهرها ، كأنه الشيخ والغزالي أبو الحسن الشاذلي إمام أرباب القلوب في زمانه الذي كان يسأل معتمدا على الإلهام الواقع في قلبه ، ذاك إلهامه صواب لا يخطئ ، وبعد موتات ماتها في الله .
الوجه الثالث : أن نقول : لا شك أن المفتي حكمه حكم الطبيب ، ينظر في الواقعة ويذكر فيها ما يليق بها بحسب مقتضى الحال والشخص والزمان ، فالمفتي طبيب الأديان ، وذلك طبيب الأبدان ، وقد قال : يحدث للناس أحكام بحسب ما أحدثوا من الفجور . قال عمر بن عبد العزيز السبكي : ليس مراده أن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان ، بل باختلاف الصور الحادثة ، فإنه قد يحصل بمجموع أمور حكم لا يحصل لكل واحد منها ، فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فيها ، فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكما خاصا . هذا كلام السبكي ، قرره في كتاب ألفه في شأن رافضي حكم بقتله ، وسماه غيرة الإيمان الجلي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وقال السبكي أيضا في فتاويه ما معناه : يوجد في فتاوي المتقدمين من أصحابنا أشياء لا يمكن الحكم عليها بأنها المذهب في كل صورة ؛ لأنها وردت على وقائع ، فلعلهم رأوا أن تلك الوقائع يستحق أن يفتى بها بذلك ، ولا يلزم اطراد ذلك واستمراره ، وهذه الواقعة المسئول عنها تتعلق برافضي ، وليته رافضي فقط ، بل زنديق جاهل من كبار الجهلة ، ولقد اجتمعت به مرة فرأيت منه العجب من إنكاره الاحتجاج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد أقواله الشريفة ، ويقول لعنه الله وفض فاه : النبي واسطي ، ما قاله وهو في القرآن فصحيح ، وما قاله وليس [ ص: 393 ] في القرآن . وذكر كلمة لا أستطيع ذكرها ، فرجعت من عنده ولم أجتمع به إلى الآن ، وألفت مؤلفا سميته : مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة ، وكان من جملة أقواله في ذلك المجلس : علي عنده العلم والشجاعة ، وأبو بكر ليس عنده ذلك ، وإنما زوجه بابنته وأنفق عليه ماله فكافأه بالخلافة بعده ، فقلت له : وردت الأحاديث بأن أبا بكر أعلم الصحابة وأشجعهم ، فقال : هذه الأحاديث كذب ، ثم أعاد الآن الكلام في ذلك مع خاير بك وطلب منه الاستدلال على أفضلية أبي بكر بآية من القرآن ؛ لأنه لا يرى الحديث حجة ، فذكر له خاير بك هذه الآية ، ولم يقلها من عند نفسه ، بل رآها في بعض كتب الكلام فذكرها ، فكان لا يليق بالجوجري في مثل هذه الواقعة أن يفتي بأن الآية ليست خاصة بأبي بكر ولا دالة على أفضليته ، فيؤيد مقالة الرافضي ويثبته على معتقده الخبيث ويدحض حجة قررها أئمة كل فرد منهم أعلم بالتفسير والكلام وأصول الفقه من مائة ألف من مثل الجوجري ، والله لو كان هذا القول في الآية هو المرجوح لكان اللائق في مثل هذه الواقعة أن يفتي به ، فكيف وهو الراجح والذي أفتى به الجوجري قول مرجوح ؟ هذه الوجوه الثلاثة الجدلية .
وأما الوجه الذي يرد به عليه من جهة التحقيق ، فأقول : قال في معالم التنزيل : يريد بالأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ، يطلب أن يكون عند الله زكيا لا رياء ولا سمعة ، يعني البغوي في قول الجميع ، وقال أبا بكرالصديق ابن الخازن في تفسيره : الأتقى هنا في قول جميع المفسرين ، وقال الإمام فخر الدين أبو بكر الصديق الرازي في تفسيره : أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر ، وذهبت الشيعة إلى أن المراد به علي ، فانظر إلى نقل هؤلاء الأئمة الثلاثة إجماع المفسرين على أن المراد بالأتقى أبو بكر لا كل تقي ، وقال الأصبهاني في تفسيره : خص الصلي بالأشقى والتجنب بالأتقى ، وقد علم أن كل شقي يصلاها ، وكل تقي يجنبها ، لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء ، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ؛ لأن الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل : الأشقى ، وجعل مختصا بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلا له . وقيل : الأتقى ، وجعل مختصا بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له . انتهى .
وهذا صريح في أن المراد بالأتقى أتقى الأتقياء على الإطلاق ، لا مطلق التقي ، [ ص: 394 ] وأتقى الأتقياء على الإطلاق بعد النبيين رضي الله تعالى عنه ، وقال أبو بكر الصديق النسفي في تفسيره : الأتقى : الأكمل تقوى ، وهو صفة رضي الله تعالى عنه . وقال : ودل على فضله على جميع الأمة ، قال تعالى : ( أبي بكر الصديق إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) انتهى . وقال القرطبي في تفسيره : قال : الأتقى ابن عباس ، وقال بعض أهل المعاني : أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي ، كقول أبو بكر الصديق طرفة :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي واحد ووحيد ، فوضع أفعل موضع فعيل . انتهى .وهذا الذي نقله عن بعض أهل المعاني هو الذي أفتى به الجوجري عادلا عن قول جميع المفسرين إلى قول بعض أهل النحو ، قال ابن الصلاح : حيث رأيت في كتب التفسير : قال أهل المعاني ، فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش . انتهى . وابن الأنباري
وكذا نقل في تفسيره هذه المقالة عن بعض أهل العربية ، ثم قال : والصحيح الذي جاءت به الآثار عن أهل التأويل أنها في ابن جرير أبي بكر بعتقه من أعتق من المماليك ابتغاء وجه الله .
فأنت ترى هذه النقول تنادي على أن الذي أفتى به الجوجري مقالة في الآية لبعض النحويين مشى عليها بعض المصنفين في التفسير ، وأن الذي وردت به الآثار وقاله المفسرون من السلف وصححه الخلف اختصاصها بأبي بكر إبقاء للصيغة على بابها . هذا بيان رجحان ذلك من حيث التفسير ، وأما من حيث أصول الفقه والعربية فأقول : قول الجوجري : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فرع أن يكون في اللفظ عموم حتى يكون العبرة به ، والآية لا عموم فيها أصلا ورأسا ، بل هي نص في الخصوص ، وبيان ذلك من وجهين :
أحدهما : أن العموم إنما يستفاد في مثل هذه الصيغة من ( أل ) الموصولة والتعريفية ، وليست ( أل ) هذه موصولة قطعا ; لأن الأتقى أفعل تفضيل ، و ( أل ) الموصولة لا توصل بأفعل التفضيل بإجماع النحاة ، وإنما توصل باسم الفاعل والمفعول ، وفي الصفة المشبهة خلاف ، وأما أفعل التفضيل فلا توصل به بلا خلاف ، وأما التعريفية فإنما تفيد العموم إذا دخلت على الجمع ، فإن دخلت على مفرد لم تفده ، كما اختار الإمام فخر [ ص: 395 ] الدين ، ومن قال : إنها تفيده فيه ، قيده بأن لا يكون هناك عهد ، فإن كان لم تفده قطعا ، هذا هو المقرر في علم الأصول . والأتقى مفرد لا جمع ، والعهد فيه موجود فلا عموم فيه قطعا ، فعلم بذلك أنه لا عموم في الأتقى . فتأمل فإنه نفيس فتح الله به علي تأييدا للجناب الصديقي .
الوجه الثاني : أن الأتقى أفعل تفضيل ، وأفعل التفضيل لا عموم فيه ، بل وضعه للخصوص ; فإنه لتفرد الموصوف بالصفة ، وأنه لا مساوي له فيها ، كما تقول : زيد أفضل الناس ، أو الأفضل ، فإنها صيغة خصوص قطعا عقلا ونقلا ، ولا يجوز أن تتناول غيره أبدا ، فبان بذلك أنه لا عموم في الأتقى ، وإلى ذلك يشير تقرير الأصبهاني حيث قال : فإن قلت : كيف قال : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) ( وسيجنبها الأتقى ) . وقد علم أن كل شقي يصلاها ، وكل تقي يجنبها ؟ لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد نارا بعينها مخصوصة بالأشقى ، فما تصنع بقوله : ( وسيجنبها الأتقى ) ، فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة .
قلت : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتهما المتناقضتين فقيل : الأشقى ، وجعل مختصا بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلا له ، وقيل : الأتقى ، وجعل مختصا بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له . هذه عبارته وهي صريحة في إرادة الخصوص ؛ أخذا من صيغة أفعل التفضيل ، ومن جنح من أهل العربية إلى أنها للعموم احتاج إلى تأويل الأتقى بالتقى ليخرج عن التفضيل ، وهذا مجاز قطعا ، والمجاز خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلا بدليل ، ولا دليل يساعده ، بل الدليل يعارضه ، وهو الأحاديث الواردة في سبب النزول ، وإجماع المفسرين كما نقله من تقدم ، فثبت بهذا كله أن الكلام على حقيقته للتفضيل ، وأن اللام للعهد ، وأنه لا عموم فيه أصلا .
فإن قلت : لم يؤخذ العموم من لفظ ( الأتقى ) بل من لفظ ( الذي يؤتي ) ، فإن ( الذي ) من صيغ العموم .
قلت : هذه غفلة منك وجهل بالعربية ؛ فإن ( الذي ) وصف للأتقى ، وقد تبين أن الأتقى خاص ، فيجب أن تكون صفته كذلك ، لما تقرر في العربية أن الوصف لا يكون أعم من الموصوف ، بل مساويا له أو أخص منه ، فاشدد بهذا الكلام يديك وعض عليه بناجذيك ، على أن في قوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) وقوله : ( ولسوف يرضى ) ما يشير إلى التنصيص على التخصيص ، وقد قرر الإمام فخر الدين اختصاص الآية بأبي [ ص: 396 ] بكر والاستدلال بها على أفضليته بطريق آخر ، فقال : أجمع المفسرون منا على أن المراد بالأتقى أبو بكر ، وذهب الشيعة إلى أن المراد به علي ، والدلالة النقلية ترد ذلك وتؤيد الأول ، وبيان ذلك أن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق ؛ لقوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، والأكرم هو الأفضل ، فالأتقى المذكور هنا هو أفضل الخلق عند الله ، والأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما علي ، ولا يمكن حمل الآية على علي ، فتعين حملها على أبي بكر ، وإنما لم يمكن حملها على علي لأنه قال عقيب صفة هذا الأتقى : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) ، وهذا الوصف لا يصدق على علي ؛ لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه أخذه من أبيه ، فكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه ، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم منعما عليه نعمة يجب جزاؤها ، أما أبو بكر فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم عليه نعمة دنيوية ، بل أبو بكر كان ينفق على الرسول ، وإنما كان للرسول عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين ، وهذه النعمة لا تجزى ؛ لقوله تعالى : ( لا أسألكم عليه أجرا ) ، والمذكور هنا ليس مطلق النعمة ، بل نعمة تجزى ، فعلم أن هذه الآية لا تصلح لعلي ، وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق ، وثبت أن ذلك الأفضل من الآية إما أبو بكر وإما علي ، وثبت أن الآية غير صالحة لعلي ، تعين حملها على أبي بكر ، وثبت دلالة الآية أيضا على أن أبا بكر أفضل الأمة . انتهى كلام الإمام .