الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            وأما المقدمة الثانية : فللعلماء في جلود الميتة سبعة مذاهب : أحدها لا يطهر بالدباغ شيء منها ، روي ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابنه ، وعائشة ، وهو أشهر الروايتين عن أحمد ، ورواية عن مالك .

            والثاني : يطهر بالدبغ جلد مأكول اللحم دون غيره ، وهو [ ص: 14 ] مذهب الأوزاعي ، وابن المبارك ، وأبي ثور ، وإسحاق بن راهويه ، ورواية أشهب عن مالك .

            والثالث : يطهر به كل جلود الميتة إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما ، وهو مذهب الشافعي وحكوه عن علي بن أبي طالب ، وابن مسعود .

            والرابع : يطهر به الجميع إلا جلد الخنزير ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن مالك حكاها ابن القطان .

            والخامس : يطهر الجميع حتى =الكلب والخنزير إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابس دون الرطب ويصلى عليه لا فيه ، وهو مذهب مالك فيما حكاه أصحابنا عنه .

            والسادس : يطهر الجميع حتى الكلب والخنزير ظاهرا وباطنا . قاله داود وأهل الظاهر وحكاه الماوردي عن أبي يوسف وحكاه غيره عن سحنون من المالكية .

            والسابع : ينتفع بجلود الميتة بلا دباغ ويجوز استعمالها في الرطب واليابس - حكوه عن الزهري . واحتج أصحاب المذهب الأول بأشياء منها قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة ) ، وهو عام في الجلد وغيره ، وبحديث عبد الله بن عكيم قال : أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ، ولا عصب " وهذا الحديث هو عمدتهم ، وقد أخرجه الشافعي في حرملة ، وأحمد في مسنده ، والبخاري في تاريخه ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، والدارقطني ، والبيهقي ، وغيرهم .

            قال الترمذي : سمعت أحمد بن الحسين يقول : كان أحمد بن حنبل يذهب إلى حديث ابن عكيم هذا لقوله قبل وفاته بشهر ، وكان يقول هذا آخر الأمر .

            قالوا : ولأنه جزء من الميتة ، فلا يطهر بشيء كاللحم وأن المعنى الذي نجس به هو الموت ، وهو ملازم له لا يزول بالدبغ ، ولا يتغير الحكم .

            واحتج أصحاب المذهب الثالث بما أخرجه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " ، وفي لفظ " أيما إهاب دبغ فقد طهر " وبما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة ، فقال : " هلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به " قالوا : يا رسول الله ، إنها ميتة . قال : " إنما حرم أكلها " ، وبما أخرجه البخاري عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال : ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ، ثم ما زلنا ننتبذ فيه حتى صار شنا .

            روى أبو يعلى في مسنده بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة فقالت : [ ص: 15 ] يا رسول الله ، ماتت فلانة . يعني الشاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فهلا أخذتم مسكها ؟ " قالت : نأخذ مسك شاة قد ماتت " - فذكر تمام الحديث كرواية البخاري ، وروى مالك في الموطأ ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه بأسانيد حسنة عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت .

            وروى أحمد في مسنده ، وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في سننه وصححاه عن ابن عباس قال : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ من سقاء فقيل له : أنه ميتة فقال : ( دباغه يذهب بخبثه - أو نجسه ، أو رجسه ) .

            وروى أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن حبان ، والدارقطني ، والبيهقي بإسناد صحيح من طريق جون بن قتادة ، عن سلمة بن المحبق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة قالت : ما عندي إلا ماء في قربة لي ميتة . قال : ( أليس قد دبغتها ؟ ) قالت : بلى . قال : ( فإن دباغها ذكاتها ) .

            وروى أبو داود ، والنسائي ، والدارقطني عن ميمونة قالت : مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجال يجرون شاة لهم مثل الحمار ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو أخذتم إهابها ) قالوا : إنها ميتة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يطهرها الماء ، والقرظ ) .

            وروى الدارقطني ، والبيهقي في سننهما بسند حسن عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة ، فقال : هلا انتفعتم بإهابها ؟ . فقالوا : يا رسول الله ، إنها ميتة قال : ( إنما حرم أكلها ، أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها ) ، وفي لفظ عند الدارقطني قال : ( إنما حرم من الميتة أكلها ) ، وفي لفظ عنده قال : ( إنما حرم لحمها ودباغ إهابها طهوره ) ، وفي لفظ عنده قال : ( إنما حرم عليكم لحمها ورخص لكم في مسكها ) قال الدارقطني : هذه أسانيد صحاح ، وروى الدارقطني عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ذكاة الميتة دباغها ) ، وفي لفظ : ( طهورها دباغها ) .

            وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دباغ كل إهاب طهوره ) .

            وروى الدارقطني بسند صحيح عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) .

            وروى الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث جابر مثله ، وروى الطبراني في الكبير والأوسط عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في بعض مغازيه فمر بأهل أبيات من العرب فأرسل إليهم ( هل من ماء لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ) فقالوا : ما عندنا ماء إلا في إهاب ميتة دبغناها بلبن . [ ص: 16 ] فأرسل إليهم ( أن دباغه طهوره ) فأتي به فتوضأ ، ثم صلى ، وروى أبو يعلى في مسنده عن أنس قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : يا بني ، ادع لي من هذه الدار بوضوء . فقلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب وضوءا . فقالوا : أخبره أن دلونا جلد ميتة ، فقال : سلهم : هل دبغوه ؟ قالوا : نعم . قال : ( فإن دباغه طهوره ) .

            وروى الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة . فقال : ( ما ضر أهل هذه لو انتفعوا بإهابها ؟ ) .

            وروى الطبراني في الكبير عن سنان بن سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على جذعة ميتة ، فقال : ( ما ضر أهل هذه لو انتفعوا بمسكها ؟ ) .

            وروى الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شاة ، فقال : ما هذه ؟ فقالوا : ميتة . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ادبغوا إهابها ، فإن دباغه طهوره ) .

            وروى الدارقطني عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( دباغ جلود الميتة طهورها ) .

            وروى الدارقطني عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( طهور الأديم دباغه ) .

            وروى أبو يعلى ، والطبراني ، والدارقطني عن أم سلمة : أنها كانت لها شاة فماتت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلا انتفعتم بإهابها ؟ ) قلنا : إنها ميتة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن دباغها يحل كما يحل الخل من الخمر ) .

            وروى أحمد ، والطبراني عن المغيرة بن شعبة قال : طلب النبي صلى الله عليه وسلم ماء من امرأة أعرابية فقالت : هذه القربة مسك ميتة ، ولا أحب أنجس به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : ارجع إليها ، فإن كانت دبغتها ، فهو طهورها . فرجعت إليها فقالت : لقد دبغتها فأتيته بماء منها .

            وروى الطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم استوهب وضوءا فقيل له : لم نجد ذلك إلا في مسك ميتة ، فقال : ( أدبغتموه ) ؟ قالوا : نعم . قال : ( فهلم ، فإن ذلك طهوره ) .

            وروى الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن جابر بن عبد الله قال : كنا نصيب مع النبي صلى الله عليه وسلم في مغانمنا من المشركين الأسقية والأوعية فنقسمها ، كلها ميتة .

            وبالقياس ; لأنه جلد طاهر طرأت عليه نجاسة فجاز أن يطهر كجلد المذكاة إذا تنجس .

            وأجابوا عن احتجاج الأولين بالآية بأنها عامة خصصتها السنة ، وأما حديث عبد الله بن عكيم فأجاب عنه البيهقي وجماعة من الحفاظ بأنه مرسل ، وابن عكيم ليس بصحابي ، وكذا قال أبو حاتم ، وقال ابن دقيق العيد : روي أن إسحاق بن راهويه ناظر الشافعي وأحمد بن حنبل في جلود الميتة إذا دبغت ، فقال الشافعي : دباغها طهورها ، فقال له إسحاق : ما الدليل ؟ فقال : حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هلا انتفعتم بإهابها ؟ ) ، فقال له إسحاق : حديث ابن [ ص: 17 ] عكيم كتب إلينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر أن : ( لا تنتفعوا بشيء من الميتة بإهاب ، ولا عصب ) ، فهذا يشبه أن يكون ناسخا لحديث ميمونة ; لأنه قبل موته بشهر ، فقال الشافعي رضي الله عنه : هذا كتاب وذاك سماع ، فقال إسحاق : إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وكانت حجة عليهم عند الله فسكت الشافعي ، فلما سمع ذلك أحمد ذهب إلى حديث ابن عكيم ، وأفتى به ، ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي .

            وقال ابن دقيق العيد : كان والدي يحكي عن الحافظ أبي الحسن المقدسي ، وكان من أئمة المالكية أنه كان يرى أن حجة الشافعي باقية ، يريد ; لأن الكلام في الترجيح بالسماع والكتاب ، لا في إبطال الاستدلال بالكتاب .

            وقال الخطابي : مذهب عامة العلماء جواز الدباغ والحكم بطهارة الإهاب إذا دبغ ووهنوا هذا الحديث ; لأن ابن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو حكاية عن كتاب أتاهم قال : وقد يحتمل إن ثبت الحديث أن يكون النهي إنما جاء عن الانتفاع بها قبل الدباغ ، فلا يجوز أن نترك به الأخبار الصحيحة التي قد جاءت في الدباغ وأن يحمل على النسخ ، وقال غيره : قد عللوا حديث ابن عكيم بأنه مضطرب في إسناده حيث روى بعضهم ، فقال : عن ابن عكيم عن أشياخ من جهينة كذا حكاه الترمذي وهؤلاء الأشياخ مجهولون لم تثبت صحبتهم ، وقد حكى الترمذي عن أحمد بن حنبل أنه كان يذهب إلى هذا الحديث ، ثم تركه لهذا الاضطراب ، وقال الخلال : لما رأى أبو عبد الله تزلزل الرواة فيه توقف فيه ، وقد روى قبل موته بشهر وروى بشهرين وروى بأربعين يوما وروى بثلاثة أيام وروى من غير تقييد بمدة ، وهي رواية الأكثر وهذا الاضطراب في المتن وأجيب عنه أيضا بأن أخبار الدباغ أصح إسنادا وأكثر =رواة فهي أقوى وأولى ، وبأنه عام في النهي وأخبار الدباغ مخصصة للنهي بما قبل الدباغ مصرحة بجواز الانتفاع بعد الدباغ ، والخاص مقدم على العام عند التعارض ، وبأن الإهاب في اللغة هو الجلد قبل أن يدبغ ، ولا يسمى بعده إهابا - كذا قاله الخليل بن أحمد ، والنضر بن شميل ، وأبو داود السجستاني ، وكذا قاله الجوهري وآخرون من أهل اللغة ، وهذا من القول بالموجب .

            فإن قالوا : هذا الخبر متأخر فيقدم ويكون ناسخا فالجواب من أوجه : أحدها لا نسلم تأخره عن أخبار الدباغ ; لأنها مطلقة فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بدون [ ص: 18 ] شهرين وشهر .

            الثاني : أنه روي قبل موته بشهر وروي بشهرين وروي بأربعين يوما وكثير من الروايات ليس فيه تاريخ وكذا هو في رواية أبي داود فحصل فيه نوع اضطراب فلم يبق تاريخ يعتمد .

            الثالث : لو سلم تأخره لم يكن فيه دليل ; لأنه عام وأخبار الدباغ خاصة والخاص مقدم على العام سواء تقدم أو تأخر كما هو معروف عند الجماهير من أهل أصول الفقه .

            وأما الجواب : عن قياسهم على اللحم ، فمن وجهين : أحدهما أنه قياس في مقابلة نصوص ، فلا يلتفت إليه ، والثاني أن الدباغ في اللحم لا يتأتى ، وليس فيه مصلحة له ، بل يمحقه بخلاف الجلد ، فإنه ينظفه ويطيبه ويصلبه ، وبهذين الجوابين يجاب عن قولهم : العلة في التنجيس الموت ، وهو قائم .

            واحتج أصحاب المذهب الثاني بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم بأسانيد صحيحة عن أبي المليح عامر بن أسامة عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع ، وفي رواية للترمذي نهى عن جلود السباع أن تفترش . قالوا : فلو كانت تطهر بالدباغ لم ينه عن افتراشها مطلقا ، وبحديث سلمة بن المحبق السابق " دباغها ذكاتها " قالوا : وذكاة ما لا يؤكل لا تطهره . قالوا : ولأنه حيوان لا يؤكل فلم يطهر جلده بالدبغ كالكلب .

            وأجاب أصحابنا بالتمسك بعموم ( أيما إهاب ) و ( إذا دبغ الإهاب ) وأن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت ; فإنها عامة في كل جلد ، قالوا :

            وأما الجواب : عن حديث النهي عن جلود السباع فمحمول على ما قبل الدباغ ، فإن قيل : لا معنى لتخصيص السباع حينئذ ، بل كل الجلود في ذلك سواء .

            فالجواب : أنها خصت بالذكر ; لأنها كانت تستعمل قبل الدباغ غالبا ، أو كثيرا ، وأما حديث سلمة فمعناه أن دباغ الأديم مطهر له ومبيح لاستعماله كالذكاة فيما يؤكل ، وأما قياسهم على الكلب فجوابه الفرق بأنه نجس في حياته ، فلا يزيد الدباغ على الحياة .

            واحتج أصحاب المذهب الرابع ، والخامس ، والسادس بعموم أحاديث الدباغ وأجاب الأولون عنها بأنها خص منها الكلب والخنزير للمعنى المذكور ، وهو أنهما نجسان في الحياة ، فلا يزيد الدباغ عليها .

            واحتج أصحاب المذهب السابع برواية وردت في حديث ابن عباس : ( هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به ؟ ) ، ولم يذكر الدباغ ، وأجاب [ ص: 19 ] الأولون بأن هذه الرواية مطلقة فتحمل على الروايات المقيدة لما تقرر في أصول الفقه من حمل المطلق على المقيد .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية