الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            ذكر نقول مذهبنا

            قال الرافعي في الشرح ، والنووي في الروضة : حريم المعمور لا يملك بالإحياء . والحريم هو المواضع القريبة التي يحتاج إليها لتمام الانتفاع ، كالطريق ومسيل الماء ونحوه ، ثم تكلما على حريم الدار وحريم القرية ثم قالا : والبئر المحفورة في الموات حريمها الموضع الذي يقف فيه النازح وموضع الدولاب ومتردد البهيمة ومصب الماء والموضع الذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزرع من حوض ونحوه ، والموضع الذي يطرح فيه ما يخرج منه ، وكل ذلك غير محدود ، وإنما هو بحسب الحاجة كذا قاله الشافعي ، والأصحاب ، وفي وجه حريم البئر قدر عمقها من كل جانب وبهذا يقاس حريم النهر - هذا كلام الشيخين ، ثم قالا بعد ذلك : عمارة حافات هذه الأنهار من وظائف بيت المال ، ويجوز أن يبنى عليها قنطرة لعبور الناس ؛ لأن ذلك من مصالح المسلمين انتهى .

            وقال الشيخ تقي الدين السبكي في شرح المنهاج ما نصه : فرع عن أبي حنيفة ، لا حريم للنهر ، وعن أبي يوسف ومحمد : له حريم ، وهو مذهبنا قال : ورأيت في ديار مصر من الفقهاء من يستنكر العماير التي على حافات النيل ، ويقول : إنه لا يجوز إحياؤها قال : وهذا قد عمت به البلوى في جميع البلدان ، قال : وإذا رأينا عمارة على حافة نهر لا نغيرها لاحتمال أنها وضعت بحق ، وإنما الكلام في الابتداء أو فيما عرف حاله ، ثم قال : ومما عظمت البلوى به اعتقاد بعض العوام أن أرض النهر ملك بيت المال وهذا أمر لا دليل عليه ، وإنما هو كالمعادن الظاهرة لا يجوز للإمام إقطاعها ولا تمليكها بل هو أعظم من المعادن الظاهرة في ذلك المعنى ، والمعادن الظاهرة إنما امتنع التملك والإقطاع فيها لشبهها بالماء وبإجماع المسلمين على المنع من إقطاع مشارع الماء لاحتياج جميع الناس إليها فكيف يباع ، قال : ولو فتح هذا الباب لأدى إلى أن بعض الناس يشتري أنهار [ ص: 160 ] البلد كلها ويمنع بقية الخلق عنها ، فينبغي أن يشهر هذا الحكم ليحذر من يقدم عليه كائنا من كان ، ويحمل الأمر على أنها مبقاة على الإباحة كالموات وأن الخلق كلهم يشتركون فيها ، وتفارق الموات في أنها لا تملك بالإحياء ولا تباع ، ولا تقطع وليس للسلطان تصرف فيها ، بل هو وغيره فيها سواء ، فإن وجدنا نهرا صغيرا بيد قوم مخصوصين مستولين عليه دون غيرهم فهو ملكهم يتصرفون فيه بما شاؤوا ، وإن لم يكن ملكا ولكن فيه مشارب لقوم مخصوصين فحقوقهم فيه على تلك المشارب يتصرفون فيها بالطريق الشرعي - هذا كله كلام السبكي ، وهو تصريح بالنقل عن مذهبنا أن النهر له حريم لا يجوز تملكه ولا إحياؤه ولا البناء فيه ولا بيعه ولا إقطاعه ، وقال في فتاويه : الأنهار ومجاريها العامة ليست مملوكة بل هي إما مباحة لا يجوز لأحد تملكها وإما وقف على جميع المسلمين ، ولا شك أن الأنهار الكبار كالنيل والفرات مباحة كما صرح به الفقهاء في كتبهم ، ولا يجوز تملك شيء منها بالإحياء لا بالبيع من بيت المال ، ولا بغيره ، وكذلك حافاتها التي عموم الناس إلى الارتفاق بها لأجلها ، والأنهار الصغيرة التي حفرها قوم مخصوصون معرفون مملوكة لهم كسائر الأملاك المشتركة انتهى بحروفه ، وهو تصريح بالنقل عن الفقهاء أن حافات النيل لا يجوز تملكها ولا إحياؤها .

            وقال في شرح المنهاج : فرع : شخص أراد أن يغرس على حريمه على ماء جار شجرة ، جاز وإن كان النهر مشتركا ؛ لأنه لا يضر بهم كما يتخذ على باب داره مشرعا ، وفي فتاوى القفال : رجل له دار في موضع ويجري نهر على باب داره فأراد أن يغرس شجرة على جانب النهر بحذاء داره لم يجز فقيل له : هذا كما لو بنى دكة في الشارع فقال : ليس كذلك انتهى .

            فإذا منع القفال من غرس شجرة فما ظنك بالبناء ؟ وقال الزركشي في شرح المنهاج : حافات النيل والفرات لا يجوز تملك شيء منها بالإحياء ولا بالابتياع من بيت المال ولا غيره ، قال : وقد عمت البلوى بالأبنية على حافات النيل كما عمت بالقرافة مع أنها مسبلة ، وذكر الدميري في شرح المنهاج نحو ذلك ، وقد راجعت نص الشافعي فوجدته نص في مختصر المزني وفي الأم على أن النهر والماء الظاهر لا يملكه أحد من الناس ، ولا يصح لأحد أن يقطعه بحال ، والناس فيه شرع والمسلمون كلهم شركاء في ذلك [ ص: 161 ] - هذا نصه في الكتابين ، زاد في الأم : ولو أحدث على شيء من هذا بناء قيل له حول بناءك ولا قيمة له فيما أحدث بتحويله .

            وقال ابن الرفعة في الكفاية : الحرائم هي المواضع القريبة التي يحتاج إليها لتمام الانتفاع بها ، سميت بذلك ؛ لأنها يحرم التعرض لها بنوع عدوان وذلك يختلف باختلاف المحيا ، وذكر نحو ما تقدم عن الرافعي والنووي ، ثم قال : وحمل الأصحاب قوله - صلى الله عليه وسلم - : " حريم البئر أربعون ذراعا " على آبار الحجاز فإنها تكون عميقة تحتاج في المواضع التي يمر فيها الثور إلى ذلك المقدار ، وحريم النهر ملقى النهر للطين وما يخرج منه من التقن - وهو رسابة الماء - وقال البغوي في التهذيب : من حريم النهر ملقى الطين وما يخرج منه .

            وقال الخوارزمي في الكافي : حريم النهر ما يلقى فيه الطين عند الحفر ، وقال السبكي في شرح المنهاج في سنن البيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حريم البئر أربعون ذراعا من جوانبها كلها " وعن ابن المسيب : حريم البئر البدئي خمس وعشرون ذراعا من نواحيها كلها ، وحريم العادي خمسون ذراعا من نواحيها كلها ، وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها ، قال الزهري : وسمعت الناس يقولون : حريم العيون خمسمائة ذراع . وعن أبي هريرة مرفوعا مثل قول ابن المسيب .

            وعن ابن عباس : حريم البئر خمسون ذراعا ، وحريم العين مائتا ذراع ، ثم قال السبكي : والشافعي لم ير التحديد وحمل اختلاف الروايات على القدر المحتاج إليه ، وبهذا يقاس حريم النهر قال : ومن حريم النهر ملقى طينه وما يخرج منه مما يحتاج إلى إلقائه عند حفره ، قال : وفي كلام الأصحاب وملقى تقنه وهو ما ينحى مع الماء وسمي الرسابة ، وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن مغفل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حفر بئرا فله أربعون ذراعا عطنا لماشيته " ، وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حريم البئر مد رشائها " ، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حريم النخلة مد جر يدها " قال القاضي أبو الطيب ، وابن الصباغ : إذا أحيا أرضا ليغرس فيها ، وغرس فليس لغيره أن يغرس بجواره بحيث تلتف أغصان الغراس وبحيث تلتقي عروقها ، وقال الماوردي : حريم الأرض المحياة للزراعة طرقها ومفيض مائها وبيدر زرعها وما لا يستغنى عنه من مرافقها . انتهى ما في شرح المنهاج للسبكي في ضبط الحريم .

            وقال الغزي في أدب القضاء :

            التالي السابق


            الخدمات العلمية