الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            30 - حسن التصريف في عدم التحليف

            وقع في هذه الأيام أنني استفتيت عن رجل أقر بأنه استأجر أرضا من مالكها ، وأنه رأى وتسلم ، وأشهد على نفسه بذلك ، ثم عاد بعد مدة وأنكر الرؤية ، وطلب يمين المؤجر بذلك فهل له ذلك ؟ فأجبت بأن له تحليفه على التسليم لا على الرؤية ، ثم بلغني عن بعض المفتين أنه أجاب : بأن له التحليف في الرؤية أيضا ، فكتبت له أن هذا الأمر تأباه القواعد ، فلا يقبل إلا بنقل صريح ، وفرق بينه وبين مسألة القبض ، فكتب لي ما ملخصه : إن ذلك معلوم من عموم وخصوص ، أما العموم فقولهم : أن كلما لو أقر المدعى عليه به نفع [ ص: 294 ] المدعي تجوز الدعوى به وتسمع ، أما الخصوص فقول المنهاج في باب الإقرار : لو أقر ببيع أو هبة وإقباض ، ثم قال : كان فاسدا ، وأقررت لظني الصحة ، لم يقبل ، وله تحليف المقر له ، قال : ولم يفرق الأصحاب بين علة فساد وعلة ، قال : وإذا حلف بعد إقرار المدعي بالبيع فتحليفه عند انتفاء شرطه أولى ، قال : ويشهد لذلك تصحيح الأسنوي أن القول قول منكر الرؤية ، وموافقته على أن القول قول من قال : إن المبيع معلوم ، والفرق أن دعوى عدم الرؤية أقرب إلى الصدق من دعوى كونه غير معلوم ، ومنكر الرؤية معه أصل وظاهر ، فظهر أن القواعد ما تأبى ذلك قال : ونحن في الجواب ما خرجنا على مسألة القبض ، ولو خرجنا صح التخريج ، لكن لا معنى للتخريج مع النقل من العموم والخصوص - هذا آخر كلامه .

            فلما وقفت عليه رأيته لم يحم حول الحمى ، وهو في غاية الفساد ، فكتبت إليه ما صورته : وقفت على ما سطره مولانا فوجدت فيه مؤاخذات ، وكنا أردنا الإغضاء عن ذلك كما هو دأبنا مع أكثر الناس ، ثم قوي العزم على ذكر ذلك ؛ لأن أكثر إعراضنا إنما هو عن الجاهلين ، كما أمر الله ، لا عن مثلكم ، فمن ذلك قولكم : إن كلما لو أقر المدعى عليه به نفع المدعي تجوز الدعوى به وتسمع ، فجوابه : إن هذه القاعدة ليست على عمومها وإنما هي أكثرية ، ومن ذلك استدلالكم على مسألتنا بمسألة الإقرار بالبيع المذكورة في المنهاج ، وهذا أمر عجيب يطول التعجب منه ، وما ظننت أن مثل هذا يلتبس على آحاد الناس فضلا عنكم ، وأشد من ذلك دعواكم أنه نقل خاص في المسألة ، وليس بخاص ، بل ولا عام ، فشتان ما بين المسألتين ، وإن بينهما لأشد المباينة ، وإن بينهما من الفرق كما بين القدم والفرق ، بل كما بين حضيض الثرى ومناط الثريا ، وبيان ذلك أن مسألة المنهاج صورتها فيمن أقر بعقد إجمالي مشتمل على جزئيات وصفات وشروط فعاد ولم يكذب نفسه ، ولكن أنكر شرطا من شروطه ، أو شيئا من لوازمه ، أو صفة من صفاته قائلا معتذرا : لم أظن أن فواته يفسد العقد فلهذا سمحنا له بالتحليف ؛ لأن مثل هذا قد يخفى عليه .

            وأما مسألتنا هذه فصورتها : أنه أقر على نفسه أنه رأى ما شهد عليه بذلك ، ثم عاد وأنكر ذلك بالكلية ، وأكذب نفسه بلا عذر ولا تأويل ، فأين هذه المسألة من تلك ؟ أيقاس على رجل أقر بعقد مجمل ، ثم لم ينكر ما وقع منه ، وإنما أنكر شيئا من لوازمه ، كالرؤية مثلا ؟ وهو لم يتعرض لها في إقراره الأول ، ولا ذكرها من صرح بإقراره بالرؤية ، ثم عاد يكذب نفسه ولا عذر له في ذلك لا ولا كرامة ولا نعمة عين ، وقولنا : ولا عذر له ولا تأويل احترزت به عن مسألة القبض ، فإنه فيها أقر بالقبض ثم عاد وأكذب نفسه فيه ، لكن بعذر وتأويل ؛ لأنه [ ص: 295 ] جرت العادة بتأخير القبض عن العقد ، وإن الناس يقرون به لأجل رسم القبالة ؛ ليقبضوا بعد ذلك ولا كذلك الرؤية ، فإنه لم تجر العادة ولا الشرع بتأخيرها عن العقد حتى نقول إنه أقر بها لأجل رسم القبالة ؛ ليرى بعد ذلك - هذا فرق ما بينهما - فقد علم بهذا أن مسألة الرؤية تفارق مسألة القبض وإن كانت تشبهها ، وأنها تباين مسألة البيع المذكورة في المنهاج بكل وجه ؛ لأن الإقرار في مسألة البيع بأمر عام أنكر منه جزئية خاصة من لوازمه ، مع بقائه على وقوع أصل العقد المقر به ، لكن بفقد شرط من شروطه ، ومسألتنا هذه الإقرار فيها وقع بجزئية خاصة لا غير ، ثم عاد وأنكرها فلا يعذر في ذلك ، ولا يقبل رجوعه ، ولا يسمح له بالتحليف كما هو شأن الأقارير غالبا ، وإنما كان يصلح لكم أن تستدلوا بمسألة المنهاج لو كانت الصورة أنه أقر بعقد إجارة فقط ، ولم يتعرض للرؤية ولا غيرها ، ثم عاد وقال : لم أر ، فهذه هي التي يقال فيها له التحليف ، وإنها داخلة في مسألة المنهاج وأما صورتنا هذه فلا .

            وإنما نظير صورتنا هذه أن يقر ببيع ورؤية ، ثم يعود ويقول : لم أر ، فتقولون في هذه : إن له التحليف . إن قلتم لا فهو المقصود ، وإن قلتم نعم قلنا لكم : لا نقل في ذلك والقواعد تأباه ، فإن المسألة التي استندتم إليها في المنهاج ليس صورتها أنه صرح بالإقرار بالرؤية مع الإقرار بالبيع ، وإنما صورتها أنه أقر بالبيع من غير تعرض لذكر شروطه : من رؤية أو غيرها ، ثم عاد وأنكر الرؤية .

            ومن العجب قولكم : إن الأصحاب لم يفرقوا بين علة فساد وعلة ، فإن هذا إنما يمشي معكم في أمر عام له شرط فواته مفسد ، لم يذكره عند الإقرار ، ثم عاد وذكره ، وأما الإقرار بالرؤية الذي هو مسألتنا فليس شيئا عاما له شرط فواته يفسده ، وإنما هو أمر خاص أقر به ، ثم عاد وأنكره فلا يسمع ، فثبت بهذا أن بين مسألتنا ومسألة المنهاج بونا عظيما ، وأن قولنا في مسألة إنكار الرؤية بعد الإقرار بها : ليس له التحليف هو الذي يقتضيه النظر الصحيح ، والتخريج الصحيح الرجيح ، فلا يعدل عنه إلا بنقل صريح ، فحينئذ نقبله ونقول : إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية