الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            مسألة : رجل حكم بحكم فأنكره عليه قضاة بلده ، فقال له سلطان البلد : ارجع عن هذا الحكم فإنه لم يوافقك عليه أحد ، فأبى وحلف أنه لا يرجع لقول أحد ، ولو قام الجناب العالي عليه الصلاة والسلام من قبره ما سمعت له ، حتى يريني النص ، فهل يكفر بهذا ؟ ثم قال بعد مدة : لو سبني نبي مرسل ، أو ملك مقرب لسببته ، وصار يفتي العامة والسوقة بجواز هذا .

            الجواب : أما قوله الأول وهو قوله : لا يرجع لأحد ولو قام صلى الله عليه وسلم من قبره ما سمع له حتى يريه النص ، فهذا له ثلاثة أحوال : الأول : أن يكون هذا صدر منه على وجه سبق اللسان وعدم القصد ، وهذا هو الظن [ ص: 284 ] بالمسلم واللائق بحاله ، ولعله أراد مثلا أن يقول : ولو قام مالك من قبره ، فسبق لسانه إلى الجناب الرفيع لحدة حصلت عنده فهذا لا يكفر ولا يعزر إذا عرف بالخير قبل ذلك ، ويقبل منه دعوى سبق اللسان ، ولا يكتفى منه في خاصة نفسه بذلك ، بل عليه أن يظهر الندم على ذلك ، وينادي على نفسه في الملأ بالخطأ ، ويبالغ في التوبة والاستغفار ، ويحثو التراب على رأسه ، ويكثر من الصدقة والعتق والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر ، والاستقالة من هذه العثرة .

            الحال الثاني : أن لا يكون على وجه سبق اللسان ، ولا على وجه الاعتقاد الذي يذكره المصمم ، فيقول مثلا : لو أمرني الإنس والجن بهذا ما سمعت لهم ، ولو روجع في خاصة نفسه لقال : ما أردت ظاهر العبارة ، ولو قام النبي صلى الله عليه وسلم من قبره حقيقة ، وقال لي : لبادرت إلى امتثال قوله ، وسمعت من غير تلعثم ، ولا توقف ، ولكن هذه عبارة قلتها على وجه المبالغة ؛ لعلمي بأن قيامه الآن من قبره وقوله لي غير كائن وهو محال عادة ، فهذا لا يكفر ، ولكنه أتى بعظيم من القول ؛ فيعزل من الحكم بين المسلمين ، ويعزر تعزيرا لائقا به من غير أن ينتهي إلى حد القتل .

            الحال الثالث : أن يكون على وجه الاعتقاد ، بحيث يعتقد في نفسه أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حيا ، وقال له : الحكم بخلاف ما حكمت لم يسمع له وهذا كفر نعوذ بالله منه ، قال الله تعالى : ( قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) ، وقال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ، وقصة الذي حكم له النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرض بحكمه ، وجاء إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليحكم له فقتله عمر بالسيف مشهورة ، وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ، والعجب من قوله : ما سمعت له حتى يريني النص ، وقوله صلى الله عليه وسلم نفسه : هو النص فأي نص يريه بعد قوله ؟ والظن بالمسلم إنه لا يقول ذلك عن اعتقاد ، والله أعلم .

            وأما قوله الثاني فمن أخطأ الخطأ وأقبحه ، وأشد من قول هذه المقالة في السوء الإفتاء بإباحتها ، فأما أصل المقالة وهو أن يقول قائل : لو سبني نبي ، أو ملك لسببته ، فالجواب فيها كما قال ابن رشد ، وابن الحاج : أنه يعزر على ذلك التعزير البليغ ؛ بالضرب [ ص: 285 ] والحبس ، وأما إباحته للناس أن يقولوا ذلك فمرتبة أخرى فوق ذلك في السوء ؛ لأنه إغراء للعامة على ارتكاب الحرام واستحلاله ، وغض من منصب الأنبياء والملائكة عليهم السلام ، وكيف يتصور أن يباح هذا لأحد والأنبياء عليهم السلام معصومون ، فلا يسبون إلا من أمر الشرع بسبه ؟ ومن سب بالشرع لم يجز له أن يسب سابه ، فالمسألة مستحيلة من أصلها ، فالجواب : ردع هذا الرجل وزجره وهجره في الله ، وعليه التوبة والإنابة والإقلاع .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية